شعار قسم مدونات

أصابني عشق

blogs جامع مهيرماه

هذه الرجفة التي تعتريني ليلاً، ذاك الخدر الذي يسري تدريجيا في مفاصلي، كفّاي تحمل ناراً، تبحث بشكل مهووس عن الأسطح الباردة، تقلبها كلما ارتدت سخونة الكفين عن الجدار وسطح الطاولة. أطراف الأقدام عبثاً تحاول التسلل من تحت لحاف الغربة، وثلج الفجر يحاول أن يغمر اسطنبول المتقلبة المتمردة، كتقلب القلب الرابض بين أضلعي. هذا ولم أستيقظ بعد، وهل يستيقظ من لم يذق طعم النوم.

 

لم يتعد الصباح ساعته الحادية عشرة، حتى كانت الشمس المنعكسة على البسفور، ترسل بآخر تراكمات الثلج إلى عالم الفناء العلوي، حيث البخار. وترى الأناس العابرين، من فوقه وأسفل منه، قد خلعوا عن كواهلهم، معاطف التربص بالثلج، غير متأففين من جو لم يعتادوا عليه إلا التقلب، بينما يلتفني دثاري الذي لا يزال يؤمن بقدرة عاصمة الترك على قلب موازين الحرارة بغيمة عابرة، فيخشى البلل وهو غريق الغربة.

 

تسلل وجهها باشّاً كدفء نيسان، سكينة تغمر الوجه الرومي المجعد، فتحت بابها موارباً، تسأل عن هوية الضيف، إنها الستينية، هاجر أنّي، وترجمتها "أمنا هاجر"، مالكة البيت الذي استقر عليه اختياري، توجست ريبة من الأجنبي القادم، وبعد حوار بسيط بلغتي التركية البدائية، أدركت فيها أنني أبٌ لا تظهر عليه مظاهر الأبوة، بهيئة شعر الرأس، ولباس العصر، وقد فتشت عن الأربع فتيات في تفاصيلي، ثم قالت بصوت متهدج "هايرلي أولسون" أي على خير.

 

فتح باب البيت على مصراعيه، هذا خواء أعرفه، بقيت الحياة المكتظة في الخارج، خلعتها على العتبة، وما أن ولجت الباب، إذا بالوسادة المتعبة تنتظر بشوق إفراغ الرأس عليها

لما عزت على معمار سنان، ميهريماه، ابنة السلطان، وأصبح وصالهم مشهداً من مشاهد الأساطير، بعدما أنشأ لها مسجدا في الطرف الآسيوي، لم يفلح في جعلها تختاره زوجاً، مفضلة أحد الباشوات عليه. وقد كان متيماً هائماً كما مآذنه لحظة الصدح بالآذان. هنا بعد صلاة العصر، وقد ظهرت رؤوس الكهول، مغطاة بطواقي المذهب الحنفي، ومعتمرة لحى بيضاء، ومسابح طويلة معتقة. يدعو إمام المسجد قبل كل صلاة لهذا المعماري العاشق، في حين تتسلل قصة المعماري إلى كل زاوية من زوايا المسجد وقد أنهى بناء مهرماه المقابل على الطرف الأوروبي، منتظراً كل سنة الحادي والعشرين من آذار، لتغيب الشمس خلف المسجد في أوروبا، ويظهر القمر خلف مهرماه الآسيوي، فيقول لها بأسلوبه المتفرد، هو قدرنا كما شمس وقمر الحادي والعشرين من آذار، لا لقاء.

 

تكاثرت كؤوس الشاي على طاولتي ذات المقاعد الخشبية القصيرة، وقد تجمع عدد من الرفاق حول نقاشات الحرف وأطراف الشعر وطبقات التصوف. في حين كانت دولنا العربية تطوف بشوارع الفاتح، وجوهاً وجوها، وإن استعصى عليك الوجه كشفه اللسان. تتزاحم الأقدام حول هذا المسجد العلامة، والشاهد على تحول التاريخ في عصرنا الحديث من العهد البيزنطي إلى الفتح العثماني. وتنفضُّ الأقدام متسارعة قبيل مواعيد المترو انتصاف الليل.

 

كان قلبي غافياً لما وصلت سيركجي، لكنه لم يخلُ من يقظة النظر إلى خريطة السلطان عبد المجيد الأول، وقد خط حلمه عليها، مرسوماً بعربات تعبر نفقاً تحت البسفور، واليوم بعد ١٥٠ عاما، يسمونه مرمراي، وهذه أصوات البطاقات العابرة، ترن في رأسي، توقظ ثقل اليوم، وغمرة المشاعر المتزاحمة على أضلعي. ألقيت بنفسي على أحد مقاعد، وبصري يطوف في الوجوه العائدة بعد يوم طويل، واستيقظت على تنبيه المحطة الأخيرة.

 

فتح باب البيت على مصراعيه، هذا خواء أعرفه، بقيت الحياة المكتظة في الخارج، خلعتها على العتبة، وما أن ولجت الباب، إذا بالوسادة المتعبة تنتظر بشوق إفراغ الرأس عليها، وإذا بالحائط يزداد صقيعا لاحتمال المزيد من لهيب الأكف عليه. وإذا بلحاف الفراش، على وضعية النهوض الباكر. تناولت كأس الماء الموضوع بعناية بين الأطباق، هذه أطباقٌ لم أحضرها، ثم غافلني النوم قبل الرشفة الأخيرة. ظهر لي معمار سنان وأنا ألح عليه بسؤال: أمسجدٌ أسس على عشقٍ يا رجل؟ بينما أستذكر وعد "هاجر أنّي" بأن تكفيني مؤونة العيش المنفرد، طالما بقيت منفردا. إيه، هي أطباقها إذن بعدما تسللت ذات نهار، ووضعتها وأنا خارجٌ في زحمة الحياة، تأبطت الرجفة من جديد، وأصابني عشق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.