شعار قسم مدونات

ماهية الخطاب المقاصدي في الإسلام

blogs القرآن الكريم

يعتبر علم مقاصد الشريعة من العلوم المستحدثة في القرن العشرين والذي انبثق من ضمن كافة العلوم الإسلامية، ولا يمكن اقتصار انبثاقه من الفقه وأصوله؛ ذلك لأن الإسلام لا يعبر عنه الفقه وأصوله فقط، بل هو الفهم الناتج من تلك العلوم، الحديث وعلومه، والعقيدة وعلومها، والفقه وأصوله، والأخلاق والتزكية، التصوف، والفقه السياسي. فالإسلام حصيلة تامّة من هذه العلوم قاطبة، والبحث في مقصد الحكم، يعني أنك تقوم بالبحث في معنى الأحكام، أي في الكشف عن توابع ومتضمن النية التي يخفيها النص الشرعي، والنص الشرعي مرتبط بتلك العلوم، وليس النص هو علم الفقه وأصوله، بل النص هو الإسلام.

والسبب الذي يجعل الكثيرين يعتبرون المقاصد تابعة للفقه وأصوله، هو الطبيعة القانونية التي يعبّر فيها الفقه وأصوله عن الشريعة الإسلامية في إصدار الفتوى، فمصطلحات العلة والحكم والمناسبة الفقهية، تعد ناطقة باسم ماهية الحكم الفقهي، وبالتالي فإن هذه المصطلحات هي جدار التماس بين معنى ورود النص الشرعي، وفقه ذلك النص؛ والمعنى هو المقصد، مع العلم بأن مصطلحات الفقه هذه باتت خاصة به، وثمة مصطلحات مثلها بدأت تنفصم عن جدار التماس هذا، تتشابه باللفظ، وتعطي معانٍ مختلفة لها، ضمن علم المقاصد. وسواء أكان البحث في نية ذات النص مباشرة؛ والذي هو مراد الشارع، والذي ينتج المذهب. أو كان البحث في نية فاهم وشارح النص الشرعي؛ والذي هو مراد صاحب المذهب، والذي ينتج تقرير المذهب، فإن وظيفة علم المقاصد تتضح في هذه الفقرة.

وإذا علمنا أن النص الشرعي، والذي هو الإسلام بطبيعة الحال، فإن الإسلام أوسع دائرة من أحد علومه، فكان هذا النص شاملًا لكل علومه بالضرورة، فالحكم الناشئ عن النص، والذي يحوي المقصد، ينتج لنا الحكم الخاص بكل علم من علومه، فهنالك مقاصد في أحكام التصوف وكذا في الفقه السياسي، وكذا في الحديث وعلومه وهكذا. فالمقاصد شاملة ضمن كل حكم، وليست متضمنة تحت أحد علومه. فهي معنى الإسلام، وهي كما قال شيخ المقاصد أحمد الريسوني التي تعبر عن "لماذا قيل النص؟".

يعتبر مقصد النص مفتاحًا لتقريب وجهات النظر في كثير من الأحوال، لحل الخلافات المعنوية غير المستساغة بين كافّة المذاهب الإسلامية

ولمّا كانت المذاهب منتجة للأحكام المختلفة في كافة علوم الإسلام، فإن هذا يعطينا مؤشرًا على أن الإسلام أكبر من أحد مذاهبه أيضًا، فلكل من هذه المذاهب نظر في مقصد معين، أنتج لنا الحكم الشرعي، من النص الشرعي، بالنظر إلى ذلك النص وفق الطريقة الخاصة به، نظرًا في التراكب الواضح بين كافة العلوم الإسلامية التي سبقت علم المقاصد، كأصول الفقه والقواعد الفقهية وغيرها، التي أنتجت المذاهب العقدية الأصولية والفقهية الفروعية.

نعم لقد بين لنا علم المقاصد وجهًا مبهرًا وقيمة عليا لورود النص الشرعي، قد تخفى على كثير من قارئي النص الشرعي، وهي نظرة عميقة فعلًا، نطقت بها ألسنة العلماء الربانيين، وأبدعتها أقلام الجهابذة المجتهدين، منذ القرون الأولى لتاريخ علوم الإسلام. إن الجمع بين؛ النظر في مقصد شارع النص، ومقصد فاهم النص، هو لأمر مهم في بيان الحكم الشرعي، الناتج عن النص، وذلك يعطي قوة في ورود ذلك النص، ويقرب فهمه بشكل أكبر لدى كافة شرائح المجتمع البشري، المسلم منهم وغير المسلم، العالم المجتهد والعامل المقلّد، وهذه مزية ثمينة لعلم المقاصد، لا تكاد تدرك إلا من قليل من الرجال. ومن يسعى في طلبها، من الحتمي أنّه ذو لب حاصل، وخاطر واصل.

وكذا يعتبر مقصد النص مفتاحًا لتقريب وجهات النظر في كثير من الأحوال، لحل الخلافات المعنوية غير المستساغة بين كافّة المذاهب الإسلامية، وتحويلها لخلاف لفظي شكلي اسمي مستساغ، فيقدم الضروري ويؤخر الكمالي، يفضل الحاجي فيترك التحسيني.

كذلك فإن كافة فروع الفقه المستجدة والتي ابتدعها طائفة من علماء العصر أمثال يوسف القرضاوي، كفقه الواقع والأولويات والمآلات ونظرية الضرورة، كلها تعتبر لبنات يجمع بين أسّ فهمها المادة الإسمنتية الرابطة، علم المقاصد، فمآل الشيء هو المقصد، وتقديم الأولوية منوط بالمقصد، والنظر في الواقع بالاجتهاد الفقهي مربوط بالمقصد، وضرورةُ حكمٍ أجلُها محتومٌ بالمقصدِ، فالمقصد هو المعنى من الورود، وهو الأصل في النظر، لا يغيب عن منطق الكلم، ولا يذوب إلا في قيمة العلم، وهو روح الإسلام.

المقاصد لها دور كبير لفهم ماهية كلام الله وكلام رسول الله، فلا يمكن المرور على النص من غير النظر والتدقيق بقصده وغاية تشريعه
المقاصد لها دور كبير لفهم ماهية كلام الله وكلام رسول الله، فلا يمكن المرور على النص من غير النظر والتدقيق بقصده وغاية تشريعه
 

إن النظر في علم المقاصد، على أنّه علم وُلد ويحتاج للإنضاج، لهو واجب على كل من يعتبر نفسه منتمٍ لدين الإسلام، ومن عجيب الحديث، ورود الحديث الأول في صحيح البخاري، ناطقًا بهذا العلم، ولا نبالغ لو عوّلنا عليه في القول بأن المقاصد تستند عليه بشكل واضح، فحديث عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- "إنما الأعمال بالنيات"، والذي لا يقف على هذا المقطع، المشتهر على كثير من الألسنة، يعطي مثالًا يتلو هذا المقطع، يرجى التعمق في قراءته مرة أخرى بروية وهدوء، وسنفهم منها أن الإسلام هو دين المقاصد. هي عبقرية من البخاري موروثة من تركيز الكثير من العلماء على هذا الحديث.

إن هذا الحديث الذي قال فيه الشافعي -رضي الله عنه- أنّه "يعدل ثلث العلم"، يعد أساسًا لأحد القواعد الفقهية الخمس "الأمور بمقاصدها"، والتي اتفق العلماء على تماهيها مع الشرع، وكذا ما يتفرع عنها الكثير من الألفاظ المختلفة المعبرة عن ذات المعنى، في بيت شعر الشافعية الشهير "والقصد أخلص إن أردت أجورًا".

والناظر بعمق إلى القواعد الفقهية الخمس، يعرف أن المقاصد هي أصلها، وهي منبثقة عن علم المقاصد، فالضرر المزال بذهابه تحل المنفعة و"المصلحة"، وجلب المشقة للتيسير كان من باب "دفع" الشديد للأشد، وعدم زوال اليقين بالشك؛ تستجلب "منتهى" اليقين المضمون، وترمي غير المضمون، وكذا ما لتحكيم العادة من "سهولة" مرور الأحكام الشرعية في المجتمع. فالقصدية لا تخفى من كلمات المصلحة والدفع والمنتهى وكذا السهولة، وما شابه ورودها من كلمات أُخَر، فالمقاصد كما يتضح له دور كبير في فهم ماهية كلام الله وكلام رسول الله عليه الصلاة وأفضل التسليم، فلا يمكن المرور على النص من غير النظر والتدقيق في قصده وغاية تشريعه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.