شعار قسم مدونات

"داري يا قلبي".. أغنية علي مقياس الوجع

مدونات - حمزة نمرة
في رائعته "داري يا قلبي" أبدَع محمود فاروق في اختيار كلماته التي وضعت الملح على الجرح بإتقان عبر استخدام مجازات شعبية ليعكس لنا تداعيات الواقع المُرّ في بلادنا والذي اضطر البعض لأن يختار الغُربة بديلاً عن الوَطن، الأمر الذي أحدَث حالة من الأُلفَة حدّ التضامن مع كلمات الأغنية والتي تتجلّي فيها أنّات الاغتراب والحنين "شايف في عينيك نظرة حنين بتحن لمين ولا مين" وكأنّه فصّلها حسب جراح قلوبنا و أخاطها بندوب الوطن الذي تبرّأ منّا ، بل وعززتها بحّة صوت الفنان "حَمزَه نَمِره" فضلاً عن مقامات الألحان والتوظيف الجيّد للآلات الموسيقية مع تفاوت سرعة الايقاع. 
       
إن أكثر ألم يبقى ويصنع ندوبه في روح الانسان هي الغربة "تلك الهزيمة المسبقة". ذلك الملجأ الذي يفترض به أن يكون أماناً لنا من أوطان كسيحه جعلت أقصي طموحاتنا هي أن نُهاجِر، الغُربة التي كنّا ننتظر أن تكون نافذتنا للعالم لا مختبر التجارب علينا وعلى مشاعرنا بل وأحلامنا "بتودع حلم كل يوم تستفرد بيك الهموم وكله كوم والغربة كوم والجرح كبير".
         
لا أدعيّ أنني أمتلك وصفةِ من شأنها أن تهوّن عليك أعباء الغُربة كي تتجاوزها بأقل الخسائر، سوي أن تحصن ذاتك من الضعف والتراجع والخوف، أن تكون عائلة بروحك، أن تعمل لذلك دون ان تتذكر ولوهلة أنه لا أحد حولك، ان كنت محظوظاً بصديق يقف الى جانبك فسيكون هذا عونا كبيرا في أوقات المواجهة وان لم يكن فإنك ستكون قوياً ضعفين. ففي الغربة لا أحد يعلم ما أصابك"مالك مش باين ليه؟" لا أحد يهتم لمعركتك الخاصة مع الحياة، ولا أحد يدري متي انتُهك أمان قلبك "قلبك تايه من مدة كبيرة"، ولا ينبغي لأحد أن يعرف "فين تلق دواك" سوي الله فلا تتكئ على غيره كي لا تقع.
         

جرب أن تختطف الحياة وترغمها على المجيء إليك كي لا تفوتك في دوامة الغربة مهما كانت التحديات، فالتحديّات في الغربة لا تحل نفسها باستجداء العطف والشفقة

في الغربة،، ليس هناك ما هو أسوأ من أن تتحول إلى جزء بليد كآلة قديمة، تتكلف أداءك كي تبدو على غير ما أنت عليه، تتحرك بمعزل عن إرادتك، لتدرك متأخراً أنه "اتسرق العمر بالبطيء ورسي على مافيش" وأنك وإزاء الحياة بوصفها تجربتك الخاصة لست موجوداً، ولا تتمتع بأي ثقل ذاتي يفصح عنك. لذلك قاوِم ولا تكُن مسخاً، كتمثال تُرِك سهواً بعد حرب ضارية مات الجميع فيها.
            
حين تبدو ملامحك أكبر من عمرك، حين تشعر بأن جسدك الصغير مجرد صوره لا تعكس حقيقتك بينما في صدرك عالم كبير من الخيبات ، حين تفقد حماستك تجاه الأشياء وتصغر قيمتها في عينك "مبتديش حاجة اهتمام أهلا أهلا سلام سلام"، حين تلجأ لحلول مؤقته حتى وان كانت تعني القبول بمأزق مٌؤجَل، حين تغرق في صمتك شاخص العينين وليس ثمة ضجيج قادر علي إثارة دهشتك "خايف تتكلم ليه ،، في عيونك حيرة وحكاوي كتيرة"، حين تعيش كل لحظات خوفك وَحدك بكل ما تعنيه الكلمة مِن وَحشَه حدّ أن تتحسس قلبك فتصدمك الغِلظة وتبلّد الشعور "احساسك كل يوم يقل" ، حين تعتاد الفاجعة حتي يصير قلبك مفتوحاً على مصراعيه كمشفى للطوارئ ، فاعلم أن الغٌربة قد نحتت وجهها القبيح عليك.
       
ولأن مهمة الكاتب هي التنوير.. انفض عن كاهلك غبار الغربة ودَعنا نتفاءل قليلاً فبعض التفاؤل لا يضُر. في الغربة يا صديقي لسنا مُطالَبين بأن نثُبت لأي أحد أي شيء، لسنا موجودين لنثبت للآخرين كم نحن أقوياء أشدّاء أولي عزم، إننا موجودون هنا لنشعر، لتصنعنا أحاسيسنا مهما كانت حزينة فالمُكابدة قرينة الغُربة، نحن هنا لنحتفي بعاطفتنا، لذلك آمِن بذاتك، ابحث عن نورك الخاص الذي لا يخبو، عمّا يغذي روحك ويثير شغفك، كُن متوثب النفس، تخلّص من كل ما يقيّدك، لا أقول تحول إلى شخص آخر أكثر بلادة وبلاهة، لكن ابقَ إنساناً ثائراً جميلاً.
       
جرّب ولو مرّة أن تختطف الحياة، أن ترغمها على المجيء إليك كي لا تفوتك في دوامة الغربة مهما كانت التحديّات، اسع جاهداً إلي تحويل هذا الألم و تلك السنوات إلى شيء بديع ومدهش وخالد، فالتحديّات في الغربة لا تحل نفسها بالتضخيم والمبالغة و استجداء العطف والشفقة تجاهها، جرّب أن تبحث عن حل مشاكلك بنفسك قبل أن تذهب بها للآخرين، فالمشكلات تنتهي فقط بالتصدي، في مواجهتها بصدق لا بميوعة و تذمر، وان كنت محظوظاً ليكن ألمك إبداعيا ، ينظر للغربة بعشرة عيون وقلب واحد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.