شعار قسم مدونات

عن إكراهات الأمومة الغامرة

مدونات - أمهات
في منشور لدى أحد الأمهات والتي تمثل لي بشكل شخصي نموذجًا في الثقافة والقدرة على الكتابة التي تصل للقلب مباشرة، في هذا المنشور رأيت تعليقًا عابرًا -لا أعرف إن كان مزحًا أو لا- يسخر فيه مما تكتب، ويتحدث عن انصهارها الشديد في أمومتها وزوجها، وأنها لا تكاد ترى بعد هذا "الانسحاق"..
 
رأيت في هذا التعليق ما يمكنني أن أسميه إكراهات الأمومة، إكراهات الأمومة التي رأيتها في عيون كثيرين عندما رزقت بطفلي، وتعلقت به وأحببته، أن أُكره على أن أكون غير نفسي حتى أنال رضىً مجتمعيًا ما، أن أُكره على أن أكتب ما يعجب صديقاتي، اللواتي لا يحببن أن أتغير بعد حدث هائل في حياتي وهو أن أكون أمًا..
  
عندما تتزوج الفتاة، تظل خفيفة، لا يحدث الزواج أثرًا حادًا في شخصية الفتيات، لذلك تظل علاقاتها وصداقاتها موجودة ومتينة تقريبًا إلا قليل، أما بعد الأمومة فيتغير كل شيء، تنصهر الأم في الأمومة وتتحول لكيان آخر لا يفهمه من لم يمر بتجربة الأمومة، تكون هي مضافًا لها أشياء كثيرة وعريضة، تصبح هي نفسها مليئة بالحلم والأناة، تكون الأمومة تغيرًا حاداً في طريقة الشعور والتفكير، ودائمًا ما أشعر بالدهشة الغامرة عندما يتحدث شخص ما عن الأمومة وهو لم يخضها، ويا سلام لو كان المتحدث رجلًا..
  

في حال الانتباه، تكون الأمومة حادثًا ثوريًا عارمًا في حياة النساء الصغيرات اللواتي تحولن للتو لأمهات، يحتاج لحالة من الوعي القصوى بالذات والآخر، ولكنها أيضًا قد تكون صدمة كبرى

تبدو لي تجربة الأمومة تجربة شديدة الخصوصية، في تفاصيلها و تغييراتها التي تحدثها، لا يمكن للمرأة أن تكون نفس الأم مرتين، في كل مرة تنجب فيها تولد من جديد، تتشكل نفسًا جديدة مع مولودها، كلما أنجبت أطفالًا أكثر كلما رأيت نفسك بوجوه شتى، أحب أن أسمع من الأمهات عن تجاربهن، لأن كل النساء لو اجتمعن وتحدثن عن الأمومة لكان كل حديث منهن حديث خاص جدًا لا يشبه في مضمونه أي حديث آخر، فيه تتجلى الوحدانية، صوريًا كلهن أمهات، كلهن أنجبن، كلهن أرضعن، كلهن يحببن أطفالهن أكثر من أي أحد آخر، لكن فعليًا كل واحدة منهن نسيج وحدها، الأمومة صعبة جدًا، و لكنها تحفظنا، كأم أشعر كأن ولدي يحفظ علي ديني و عقلي، تزعجني الأشياء وتضايقني الدنيا فأشيح ببصري عما سواه و أرضى به عزاء وسلوى..

 
في الأمومة هو طفلي ولكنه ليس أنا تمامًا، هو أكثر ما أمتلكه في الدنيا، ولكني لا أمتلكه على الإطلاق، يأخذ من صفاتي النصف ومن أبوه النصف، ولكنه يظل متفردًا عنا، مستقلًا، ومنذ عمر الثانية يردد "لا" لكل شيء.. في الأمومة استمرار للدنيا رغم كل شيء، إذا رزقت بطفل، فسيجرجرك رغمًا عنك للحياة.. في الأمومة تتغير المعاني، ولا يكون المعنى نفسه قبل/ بعد، يصبح كل شيء حقيقي أكثر، فيقف الخوف على طرف الغرفة يحملق فيك، ويصاحبك الأمل ويضع يديه على كتفك، وهكذا حتى يضيق البيت بأصدقائك الجدد، اللذين تجسدوا حقيقة فور ميلاد طفلك.. تتسع المعاني، وتتسع نفسك، وتتسع الدنيا كلها، تكتشف ما لا يمكن اكتشافه بغير الأمومة..
  
تُغير الأمومة كيان الأمهات، كيف تُصب الحكمة على الأم الجديدة والتي وَلدت منذ أيام قلائل؟ لا أعرف، كيف يمكن للأمهات التماس كل هذا الجمال من وجوه الأطفال؟، وفي ظل واقع شديد القسوة؟ لا أعرف، ولكني أعرف أنه يحدث، كيف يمكن لامرأة تكره الأطفال تمامًا أن يصب على قلبها كل هذا الصبر، فتحتمل وتحمل وتغير وتحمم وترضع؟ لا أعرف، لكني أعرف هناك أشياء كثيرة تحدث في حياتنا لا نستطيع أن نفسرها، ويبقي هذا سر جمالها..
  
هذا التغيير لا يرغب الكثيرون في الاعتراف به، هناك إكراه اجتماعي يريد للنساء أن تقلن: أنا ما زلت أنا، ما زلت المرأة النشيطة الموظفة/ أو العاملة أو حتى العاطلة التي تهوى الفسح والطلعات، هذا الإكراه الذي لا يريد للنساء أن يقلن: لقد تغيرت، تغيرت كثيرًا، أصبحت أكثر اتساعًا، وأكثر عيونًا، أكثر حكمة، أكثر صبرًا، هذا الإكراه الذي يريد للأم أن تتحمل أعباء الأمومة وحدها بلا شكوى، ولا يريد أن يساعد في استقبال طفل جديد، هذا الإكراه الذي يريد أن تسير الدنيا كما هي ولا يقف ولو للحظة يتطلع ويندهش ويتساءل عن المعجزة الجديدة، هو شيء يقول عنه علي عزت بيجوفيتش "خزي"، أي الخزيّ الذي يلحق بالأمهات ويفضل عليهن أدوار أخرى غير أدوار الأمومة بحيث لا تكون الأمومة "كافية أبدًا" للنساء..
  
undefined
 
في حال الأمومة تتغير النظرة للأمهات فورًا، وكأنهن أصبحن أقل قدرة، وأقل كفاءة، بالطبع يأخذ الأطفال من أمهاتهن الكثير، نفسيًا وبيولوجيًا، ولكنها تظل نفسها بمساحات جديدة، وهذا غريب لا يدركه إلا من جربه، تظل نفسها ولكن جزءًا منها يولد من جديد..
  
في حال الانتباه، تكون الأمومة حادثًا ثوريًا عارمًا في حياة النساء الصغيرات اللواتي تحولن للتو لأمهات، يحتاج لحالة من الوعي القصوى بالذات والآخر، ولكنها أيضًا قد تكون صدمة كبرى تحت سوط الإكراهات المتتالية، إكراهات النظرة الدونية، إكراهات المطالبة بالبقاء كما كانت مع أنها تغيرت، إكراهات "ألا تشتكي ولا تطلب العون" تحت عنوان "كلهن ولد"، إكراهات التقليل والنبذ والحط من الشأن..
  
تحدث الأمومة تغييرًا أكيدًا وفوريًا في حياة الأمهات وفور الولادة، ولكن نساء قليلات عن القادرات عن الحديث عن الأمومة بشكل يحدث تغييرًا في حياة الأمهات، وكل ما أتمناه أن تمتلك الأمهات قدرة على التحدث والحديث عن تجاربهن، وأن يعبرن خط الإكراه لخط الراحة والارتياح مع الأمومة وفيها..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.