شعار قسم مدونات

أمي اسمها باولا

مدونات - طفل
أحمد ساخط ويائس، لأن زعتر يفوز بمودة ميس وصحبتها، وهما يتبادلان شمّ المماحي بالمناقير، مثل اليمام، ويقضيان الوقت في نضال الطِيب بالطِيب، والأنفاس بالأنفاس، وبري الأقلام في المدرسة بالمبراة نفسها. لدى زعتر ممحاة معطرة، ليس كمثلها، لكن ثمة أمر آخر، لا يعرفه، يجمع زيت زعتر، على خبز ميس. كان يود لو كانت ممحاته تضوع عطرا في البلدة كلها، ويشمها الناس منه حيثما مشى، وتجعلهم جميعا سكارى، يشكرونه ويحسدونه على ممحاته، يدعون له، ويثنون عليه.
 
أمه تأمره حال عودته من المدرسة بجرِّ البقرة المسكينة إلى المراعي خارج البلدة. لم يعترض يوما، يود لو يقول لها، انتظري قليلا حتى أنتهي من كتابة واجباتي المدرسية، أو أن هذا وقت اللهو، أو هل أنا راعي البقرة، أو لمَ لا تأمرين إخوتي البيض، أو تجعلين لنا جدولا ومناوبات. أمه تكرهه، وتفضّل عليه أبناءها البيض، الذين يشبهون أخوالهم، وتقول له: طالع لأعمامك القرود، فهو يشبه أبوه، أسمر مثله، قصير مثله، مسكين مثله، والده غائب في الأعمال البعيدة، وأمه تسومه سوء العذاب. وتغري بين أولادها بالعداوة والبغضاء، أمه تحرمه من حصصه في الحلوى والفاكهة واللحم، كل حق لا يحّصله إلا بمعركة، أمه أقسى من ميس.

يقول لنفسه: أنا فارس من الفرسان الكبار، حتى وإن أدارت لي ميس ظهرها، وعليّ واجب حماية القبيلة، وردّ الأعادي عن حماها، والبحث عن الممحاة الذهبية. لكن أوامر الوالدة الشديدة، واجبة التنفيذ، وعداوتها غير مجدية. تقول له: خذ معك حقيبتك وقم بواجباتك هناك، وابقَ هناك، ومت هناك. هي لا تحب أن تراه، فهي تذكّره بحماتها، جدته، كلما رأته، فهو يشبهها.

البقرة تلحق به طائعة، مؤدبة، عيناها جميلتان، وحزينتان، ولبنها أطيب، يجوع، فيحبو على قدميه، ويرضع من ضرعها، فتلتفتُ إليه وتقول: أنت عجلي الثاني، يرضع حتى يشبع، فينام

يقصد البقرة في زريبتها، فيشعر أنها تنتظره بعينيها الحزينتين، هي وحيدة مثله، لون جلدها أبيض، فيه جزر سوداء، هذه بقرة هولندية، ليس كمثلها في البلدة كلها، واشتُريت بثمن غال. قطعتْ آلاف الفراسخ، حتى وصلت إلى هذه البقعة البعيدة، هي أغلى من ناقة البسوس. اشتُريتْ بعد أن شاعت عنها أقوال تفيد بأن البقرة الهولندية تحلب صفيحتين من الحليب في كل مرّة، ستروي العائلة والجيران حتى الجار السابع. أبقارنا ذات ألوان موحّدة مثل الزي العسكري، إما سوداء، أو برتقالية، لكن البقرة البلقاء الإفرنجية حزينة، بعد أن مات عجلها، وهي لا تبضُّ سوى خمسة ليترات شحيحة، بعد عصر ضروعها، التي تجفُّ يوما بعد يوم، كأنها تعاقب نفسها، أو تعاقبنا.

الدنيا ربيع، لكن البقرة حزينة.

يشدُّها من حبلها، ويقودها عبر دروب البلدة إلى الحقل البعيد، ومعه حقيبته المدرسية، الطريق طويل يستغرق ثلاثة أرباع الساعة، سيمر في الطريق بحقل مسوّر بأشجار الزيزفون، فيتمنى لو يطول الطريق بالعبق والعطر، ولو أن الحقول كلها مسوّرة بتلك الأشجار طيبة الريح، ويبطئ السير، ويشمُّ رائحة ممحاة ميس، وسرعان ما ينتهي شارع الزيزفون. يجرُّ البقرة الرائعة وراءه، وينظر إلى عينيها الآسيتين. يوما بعد يوم وجد أن نزهة البقرة لا تخلو من المتعة. هي لطيفة، لكنه لا يعرف سبب حزنها الدائم، وخوارها الباكي. ويقرر أن منفى الكرْم أكرم له من العيش تحت بطش تلك المرأة المتسلطة، الكاوبوي، التي تعيش على القسوة، وتستمتع بمشاهد العنف.

وهكذا أمست نزهة البقرة إلى الكروم يومية، سوى أيام المطر.

جاؤوا لها بطبيب بيطري، حتى يشخّصَ بلواها، ويكشف علّتها، ويبرئ سقمها. قال الطبيب: إنها مريضة نفسيا، البقرة هولندية يا معشر القوم، ومعتادة على الموسيقى، موزارت وبيتهوفن وفيفالدي، وكانت تعيش في مدرسة أبقار، وفي زريبة مكيفة، دافئة في الشتاء، وباردة في الصيف، وليس في مثل هذه الغرفة الطينية البائسة، مع الصراصير والعقارب، وكانت لها زميلات وصويحبات، ولا تأكل إلا في مواعيد، ووجباتها منوعة وغنية، بالفيتامينات والبروتين، وأنتم لا تطعمونها سوى التبن الجاف، وكان لها اسم وبطاقة، و"كاو فريند"، يذهبان معا إلى السينما. هي مصابة بالاكتئاب، هل تعرفون اسمها؟ وقرّعنا وهو يخطب: هل ناديتموها مرة واحدة باسمها؟ فتذكّروا بطاقة شرائها، وأحضروها، ووجد الطبيب أن اسمها باولا. قال الطبيب: باولا سيجفُّ حليبها من اليأس، إذبحوها قبل أن تنتحر، أفٍ لكم، ألا ترون عظامها بارزة. قال لها: وداعا سيدتي باولا، وخرج.

البقرة تلحق به طائعة، مؤدبة، عيناها جميلتان، وحزينتان، ولبنها أطيب، يجوع، فيحبو على قدميه، ويرضع من ضرعها، فتلتفتُ إليه وتقول: أنت عجلي الثاني، يرضع حتى يشبع، فينام، لها حَنينانِ: إعْلان وإسْرار.

يقول لو أسكن هنا، وأعيش مثل طرزان فتى الأدغال، أم طرزان كانت قردة، وأمي بقرة، ففي الحقل كوخ صغير، لكنَّ عيب الكرْم أنه بعيد عن المدرسة، وعن ميس وممحاتها العطرة.

undefined

تخور أحيانا نادبة كالثكلى، يصلان إلى الحقل، فيقول لها تفضلي يا هانم، فتبدأ بالرعي من غير شهية، خلاص إنسي عجلك، ستنجبين غيره. َترْتَعُ ما رَتَعَتْ، حتى إذا ادّكرَتْ، فإنَّما هيَ إقبال وإدبار. يتمدد متعبا من الطريق، ويفرش حصيرة يحضرها من كوخ ناظر الكرم، ويبدأ دفع ديات المعارك المدرسية منبطحا على بطنه، تدوينا. وبعد أن ينتهي، يضطجع على ظهره، ويتأمل السماء الصافية، الملطخة بجبال العهن المنفوش، وأسراب الطيور العابرة، والغيوم البيضاء، ويغفو مستندا على ذراعه، ويحسُّ بالرضى وهو يراها تجتر العشب الطري الأخضر، على مضض من غير شهية، تفضلي، قدمتُ لك أكبر باقة عشب في العالم، أنت حبيبتي الوحيدة، الحقل بكامله لك.

ويجد في بيت شعري قرأه ذات يوم على صدر مكتبة، حاله وحال البقرة: أجارتنا إننا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب. تمضي ساعتان، وثلاث، وتقترب الشمس من المغيب، وتتغير حركة الطيور، التي تبدأ حفلات وداع النهار، بكثير من الأناشيد والمظاهرات، والمناقير. كل يوم يبدأ بأناشيد الطيور، وينتهي بها. حان وقت العودة، يمسك برسنها، ويقودها، عيناها جميلتان، وحزينتان، يحسُّ أن باولا هي حبيبته الأولى، وليس الثانية بعد ميس.

استفاق يوما، ليجد نفسه في الفراش، وحوله قوارير وأدوية، وحبوب، وإبر، وبعض الفواكه، وعرف أنه مريض منذ أسبوع، ويهذي محموما، وسمع لغطا، فحاول أن ينهض، فلم تطعه قواه. غالبَ ضعفه، وجثا، ثم حبا إلى الباب، واستند على مصراعه، فوجد أهله يجرون البقرة من زريبتها، وقد هزلت وبان عظمها، وانزاحت الجزر السوداء على جلدها. وعلم أنها لم تأكل شيئا منذ أسبوع، لقد فقدت عجلها الثاني أيضا، فقدته هو، وعمّه ينتظرها ليأخذها إلى المسلخ، لقد جفَّ ضرعها ويبس، سيأخذون حبيبتي إلى السكين. عمي يقول: إنه من الأولى الانتفاع بلحمها قبل أن تموت، نظرت البقرة إليهم بحزن. كان قد اعتاد على النزهة اليومية معها إلى الحقل، وألِف البرية ورائحة الزيزفون، والدراسة في السهوب، حاول أن يصيح مثل طرزان، أن يعترض، أن يقول إنه يعرف سبب مرض باولا، لكن صوته خذله، وخذلته قوائمه، فسقط، لم يستطع الاعتراض، فعمه عنيد، وأمه أشد عندا.

حاول أن يقول: أرجوكم لا تذبحوا أمي، أرجوكم، أتوسل إليكم. كانت باولا تبحث بعينيها عنه، فلا تجده، وعرف أنه سيصير يتيما.

لقد خسر ميس، وخسر باولا أيضا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.