شعار قسم مدونات

هذا الوقت سيمضي..

blogs تأمل
يمر الوقت بسرعة عندما نعيش أوقاتا سعيدة، وينتهي بسرعة قياسية في حال جلسنا مع من نحب، وتزداد سرعته لو كانت الجلسات مخططا لها ومبنية على موعد مسبق، لكن ماذا لو كان أحدهم يعيش حالة ضنك وشدة أو يواجه مشكلة حلها قد يطول وليس بيده حيلة، في تلك الحالات كيف يمر الوقت بالنسبة لأولئك الأشخاص؟ وماذا لو أن أحدهم يعيش حالة فقد أو فراق، أو أن شخصا ينتظر ويرتقب خبرا أو حادثة وهو في حالة قلق، بالتأكيد سيمر الوقت بالنسبة لأولئك الأشخاص ببطء شديد.

 

قد يتأمل أحدهم تأثير الوقت في حياتنا ويراه غير عادل في مروره؛ فهو يُسرع عندما نشتهيه أن يُبطئ، ويُبطئ عندما نريده أن يمر سريعا، قد يصفه البعض بأنه ظالم، ولكن السبب ليس فيه بل بطبيعة النفس البشرية، فهي بفطرتها تجعل الأمور تسير بهذا الشكل؛ ربما لكيلا تجعلنا نسترسل كثيرا في مشاعرنا البهيجة، أو لكي تجعلنا نفكر بطريقة أكثر تمهلا عندما يحتاج الأمر لهذا.

بطبيعة الحال فإن هذا الوقت سيمضي، جميع أوقاتك المقبلة، حتى هذه الدقائق التي تقرأ فيها هذه السطور فإنها ماضية أيضا، سيمضي كما مضى الذي قبله وكما سيمضي الذي يعقبه، سيمضي كما اندثرت تلك القرون الماضية وكما سيندثر الذين يلونهم، سيمضي كما شادت في قديم الزمان صوامع وبيع ومساجد ومعابد وقصور وقلاع وحصون وأسوار، وكما انمحقت وانهدمت كلها بعد ذلك وانجرف أثرها ولم يبق منها سوى حكايا الجدات وسطور في بعض الكتب.

 

بالتحديد، كما مضى ذلك الوقت سيمضي وقتك هذا وتنساك الأيام والسنين وتنساها أنت أيضا، تنساك كما نست ملايين الملايين من قبلك، وكما ستنسى المليارات من الذين يعيشون معك الآن، سينقضي فنجان قهوتك هذا وسيهترئ الكرسي الذي تجلس عليه، ستتبدد الطاولة المزخرفة التي أمامك وستتلاشى أمواج الموسيقى الهادئة والجميلة، وسينتهي لقاؤك ذاك وتذهب ثوانيه ودقائقه؛ فلا تحزن على جلسة مرت بسرعة ولن تتكرر، لا تتحسر على مواقف وأوقات سعيدة.

الحياة لا تؤتمن دواهيها، فكم من ملوك أزيلت عروشهم ما بين ليلة وضحاها بعد أن كانت البلاد والعباد رهن إشارتهم، كم من الحضارات التي بُنيت ثم أتى بعد ذلك زلزال جارف فأزال ما كان يتوقع أهله أنه لن يزول

أنت يا من تعد الثواني والدقائق، أنت بالذات لن ألومك لو نعتت الزمن وثوانيه بالظلم، إن كنت تعيش أياما حزينة ومشاكل لا طاقة لك بحلها وأقدارا لا ترضيك فلا تنسى أنه في الحياة من هو إما شقي أو سعيد، هذا هو الواقع فتقبله وكُن ممتنا لآلاف الأسباب المعقدة التي تحققت لتولَد أنت وتأتي إلى هذه الدنيا، لذا عشها بكل تفاصيلها وحاول انتزاع الأشياء الجميلة من كبد البؤس، وأقول لك إنك لو كنت في فئة الأشقياء فهذا لا يعني الاستسلام.

 

كما أن هناك فكرة أخرى علينا جميعا أن نعلمها وهي أن الحياة لا تؤتمن دواهيها، فكم من ملوك أزيلت عروشهم ما بين ليلة وضحاها بعد أن كانت البلاد والعباد رهن إشارتهم، كم من الحضارات التي بُنيت بكد اليد وعرق الجبين وسهر الليالي وتفكر المفكرين وعمل العمال ثم أتى بعد ذلك زلزال جارف فأزال ما كان يتوقع أهله أنه لن يزول، وأصبحت تلك الأماكن منسية وكأنها لم تكن، لذا فإن انطويت في محنتك وركنت في ظلمتك وانزويت في حجرتك وانفردت في حزنك وغرقت في عزلتك، فاعلم أن الحياة مراحل تتوالى، ولا بد لمرحلة الحزن أن تنتهي يوما، سينقضي وقتها وتنتهي صلاحيتها ويأتيك الفرج من كل حدب وصوب.

دعونا الآن نسرح في خيالنا معا، كم من الأفراد الذين عاشوا على هذا الكوكب على مر العصور؟ كم من المشاكل التي حدثت وكم من المشاجرات التي جرت وكم من الحروب التي شُنت والجيوش التي التقت؟ كم من اللحظات السعيدة التي عيشت وتنعم أصحابها خلالها؟ كم من اللحظات المُرة التي جرت مع كل أولئك الذين عاشوا قبلنا؟ هناك من ماتوا في الصحاري عطشا، وهناك من أثقلهم القيد فتكا في غياهب السجون، وهناك من جرى الحديد في صدورهم وأعناقهم، والآن أين هم وأين كل ذلك الذي حصل؟ أين هي كل تلك الحوادث بما حملت من تفاصيل؟ أين الذين عاشوها بل أين الذين سمعوا بها وتناقلوها؟! جميعهم رحلوا وسنرحل..

 

سيمر وقتنا كما مر على الذين من قبلنا، سننصرم وينصرم أولئك الذين سيأتون بعدنا، سيزول هذا الكوكب برمته وتنطفئ الشمس المشتعلة التي دائما ما كنت تنعم بدفئها حينما تظهر شتاء، وتشتكي لهيبها في الصيف، ستتداخل المجرات وسينقبض الكون بعظمته على نفسه ويعود نقطة غاية في الصغر كما كان في الأصل، وحينها لن يبقى لنا أثر البتة، في ذلك الوقت..

 

ولا أدري لو أنه سيكون للوقت وجود سيحزن العلماء والمفكرون لهذه الحقيقة الذين ذاع صيتهم على مر العصور، فلن يبقى من سيذكرهم وإنجازاتهم بعد الآن، سيكتئب ذلك المستلقي على الشاطئ وبجانبه كأس من العصير لو قرأ هذه الكلمات، فهو سيعلم أن أوقات اللذة والرخاء كانت تتساوى مع أوقات المِحن والمصائب، لأن جميعها زائلة وراحلة، ولكن سيفرح الحزينون ويبتهج أصحاب العلل والغمم التي لم تزل، سيعلمون أنه وأخيرا سيُعلن أن حزنهم قد انتهى، وبعد كل هذا لن يذكر أحد إلا هذه الآية التي تقشعر عند سماعها أبدان جميع البشر من أي ملة كانوا "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ". لا تكن أسير اللحظة هذا الوقت سيمضي..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.