شعار قسم مدونات

أن تقرأ لتولستوي

مدونات - تولستوي
"كل العائلات السعيدة تتشابه، لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة." أول جملة يستهل بها الكونت روايته، وقد كانت هذه الجملة سببا لي في اكتشاف عالم تولستوي الروائي الذي يشدك إليه كطفل دخل السيرك أول مرة وتاه في ألعابه المختلفة وخفق لها قلبه خفقان جناح الطير عند خروجه من القفص، كان أول من قال لي هذه الجملة أستاذ مادة تسيير المشاريع وكان الحديث عن "الممارسات الجيدة" (good practices) حيث استدل صاحب النظرية بجملة تولستوي قائلا إن الممارسات السيئة متعددة ولا يمكن إحصاؤها عكس الجيدة.
  
تعجبت كيف يخترق كاتب روائي من القرن التاسع عشر عالم المعلوميات الحديث النشأة، فقمت بأول بحث عن رواية "أنا كارنينا" (ANNA KARENINA)، فكانت النتيجة تقول عنها تحفة فنية فتحت للأدب الروسي أبواب العالمية، بفضلها دخل الأدب الروسي إلى الثقافة الأوربية من أبوابها الواسعة، واستطاع من خلالها تولستوي التوثيق بكل نزاهة وحيادية لحقبة ما بعد الثورة الصناعية في المجتمع الروسي وكيف خلق الاهتمام بالمادة أمراضا مرتبطة بالمال في صفوف الطبقة الأرستقراطية.
  
قرأت الرواية بالفرنسية لأنها كانت نسخة الكترونية جيدة، ولأن تولستوي كتب الكثير من النصوص داخل الرواية بالفرنسية، فمعظم العائلات الأرستقراطية في روسيا آنذاك كانت تتبجح باللغة الفرنسية ويعتبرون الحديث بها رقيا، فكانوا يعلمونها أولادهم تماما كما هي الحال عندنا اليوم في الدول المغاربية، قدر العرب أن يكونوا دائما متأخرين حتى في العادات السيئة، وقد امتعض الكونت من فرنسية الروس على لسان شخصيته المتزنة ليفين كوستيا والذي ازدرى "دولي" عند سماعها تلوم ابنتها لعدم إجابتها بالفرنسية بعد أن سألتها بها وأجابت الأخيرة بالروسية، وكانت "دولي" شديدة الحرص على الفرنسية رغم البؤس الذي كانت تعيشه بعد إفلاس زوجها.    
        undefined
   
"أنا كارنينا" من الروايات التي نالت قدرا كبيرا من النقد والتحليل عبر التاريخ وما زالت إلى يومنا هذا بحرا يزخر بالمعطيات الفلسفية والنفسية، وأجمل ما في كتابات الكونت أنه غالبا ما يكون محايدا في تقديم شخصيات رواياته، فيترك للقارئ حرية الحكم، وليس عند تولستوي شخصية لا تعرف إلا الخير وأخرى لا تعرف إلا الشر، الأحداث كما الأشخاص واقعية إلى أقصى حد ولا مكان للخير المطلق أو الشر المطلق، "أنا كارنينا" أكثر من أنها تجعلك تسافر عبر الزمن لتعيش أدق تفاصيل العائلات الأرستقراطية الروسية آنذاك، ستفتح بداخلك نقاشات تتلذذ بالخوض فيها مع نفسك.
  
بعد "أنا كاريننا" أهدي لي كتاب فلسفي لتوستوي عنوانه "ما هو الفن؟"، من أروع ما قرأت في تعريف الفن، كتبه الكونت في السبعين من عمره بعد أن كان قد انتهى من كتابة معظم أعماله الأدبية، وهي تعتبر سنوات تأمل روحي وفلسفي في حياة الكونت، نتج عنها كتابه "ما هو الفن؟" كوصية فنية في آخر عمره كان لا بد منها لرسم معالم الفن، رؤية الكونت فلسفية عميقة وعقلانية إلى أقصى حد، استهلها بسؤال يطرح الإشكالية بطريقة معبرة "هل يمكن أن تقاس قيمة الغذاء الذي نتناوله بالاستناد إلى ما يبعثه لدينا من متعة أو لذة، أم بالاستناد إلى فائدته لأجسامنا وحياتنا ؟
  
الكتاب يبعث على التفكر والتأمل، يخلط أوراقك وينسف كل ما عرفت من قبل عن الفن، ليعيد ترتيب أوراقك ومنطقك بشكل فريد متزن، يهاجم فيه الكونت كتّابا أوروبيين وفرنسيين -بشكل خاص- لطالما اعتبرنا ما يقدموه فنا لا تشوبه شائبة، إلا أن الكونت بطريقته العقلانية الفذة استطاع تبيين مواقع الخلل، كما يهاجم الكونت فن الطبقة الأرستقراطية الذي بات حكرا عليهم وباتوا يعتبرون أولئك الذين لا يرقون إلى فهم فنهم طبقة جاهلة لا تستحق الفن، وهنا يضرب الكونت مثالا معبرا "عندما نقول إن عملا فنيا جيدا ولكنه غير مفهوم لأغلبية الناس، فإنما يشبه هذا قولنا إن نوعا من الطعام شهي جدا لكن أكثرية الناس لا يمكنها تذوقه".
       
  undefined
    
بعدها وجدت نفسي مستعدا لخوض الملحمة، الحرب والسلام، "إن المؤرخ الذي يدرس الدور التاريخي الذي قام به شخص في تحقيق هدف واحد من الأهداف، يقع على أبطال. أما الفنان الذي يدرس أفعال فرد من الأفراد في كل ظروف الحياة، فإنه لا يمكنه، ولا يجب عليه، أن يرى أبطالا وإنما هو يرى بشرا" هكذا يلخص لنا الكونت رؤيته لكتابه في مقدمة للكتاب تلخص بذكاء توجه تولستوي، الكونت صوّر وقائع الحرب وانعكاسها على الفرد، وتفنن كالعادة في نقل الحالة النفسية لكل شخصيات الرواية، والبناء النفسي للأشخاص، وأقول "بناء"؛ لأن الشخصيات تختلف وتكبر وتنضج مع توالي الأحداث، وأجمل ما في الرواية هي تلك الفواصل والنقاشات الفلسفية التي يخوضها الكونت بين الفينة والأخرى سواء كمقدمات أو كخاتمة لبعض فصول الرواية.
  
روايات الكونت تدخلك في صلب الموضوع مسرعا، تلك المقدمات الشاعرية وذلك الوصف المخملي لتفاصيل المكان لا معنى لها إن كان الموضوع فارغا لا يحتمل مشاعر وحالات نفسية مثقلة بالأفكار ونقاشات فلسفية وحوارات فكرية عميقة، اتّخذ مسودة وابتهج بكتابة مقتبسات من روايات الكونت، ستجدها معبرة ونابعة عن تجربة لا بأس بها في الحياة، ولا تتعلق كثيرا بشخصيات القصة فللكونت شجاعة خاصة إذا اقتضى الحال في قتل حتى أكثر شخصيات القصة تأثيرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.