شعار قسم مدونات

متى يتوقف غير المتخصصين عن مجادلة الفقهاء؟

blogs رجل أمام مكتبة

كلما كتبت رأيي الشخصي في مسألة فقهية مثيرة للجدل يبدو فيها تعارض بين العلم والدين، أجد طوفانا من التعليقات المهاجمة والمنتقدة والمسيئة أحيانا التي تتلخص حول سؤال واحد: كيف تسمح لنفسك أن تتحدث في الدين وأنت لم تتخصص فيه؟! يبدو السؤال معتبرا إذ يدور حول فكرة رئيسية وهي التخصص، ومفادها أن الدين له فقهاؤه الذين أفنوا عمرهم في دراسة "علومه"، وبالتالي لا يحق لغير المتخصصين مثلي أن يكون لهم رأي في هذه الأمور. 

 

تبدو الفكرة منطقية ومتماسكة، فلا يحق للمهندس مثلا أن يصف علاجا لمريض لأنه لم يدرس الطب، ولا يحق للطبيب أن يصمم بناية لأنه لم يدرس الهندسة، وبالتالي ليس من حقي أو من حق أي شخص لم يتخصص فيما يُسمي بالعلوم الشرعية أن يبدي رأيه فيما يقوله الفقهاء. هذا الرأي يبدو في ظاهره منطقيا لكنه في حقيقته ليس كذلك، وهذا ما سنوضحه من خلال الإجابة على الأسئلة الأربعة التالية:

 

أولا: هل يحترم الفقهاء التخصص؟

دعنا نعكس الآية؛ إذا كان الفقهاء يطالبون باحترام التخصص، فهل يحترمونه هم بالأساس؟! سألني أحدهم: متى تتوقف عن الاعتراض على ما يقوله الفقهاء، وأنت لم تتخصص في دراسة الفقه ولم تفن فيه عمرك؟

 

غالبية الفقهاء يصدرون أحكامهم وفقا لتأويلات نصوص دينية، وليس وفقا لدراسة علمية حقيقية، فرفض نظرية التطور مثلا لم يأت من نقاش علمي حقيقي تمت من خلاله مراجعة الأبحاث ونتائجها، بل تم وفقا لتأويل نص قرآني

فقلت: سأتوقف عندما يتوقف هؤلاء الفقهاء عن الحديث عن نظرية التطور وهم لم يدرسوها ولا يفقهون فيها شيئا، لم يطلعوا على أحدث الأبحاث العلمية المتعلقة بها. سأتوقف عندما يتوقفون عن الحديث عن شكل للدولة والحكم وهم لم يتخصصوا في دراسة السياسة ولا أنظمة الحكم وتاريخها ولا تطور علاقة الدولة بالبشر. سأتوقف عندما يتوقفون عن الحديث عن شكل الاقتصاد الإسلامي وهم لم يتخصصوا في الاقتصاد ولا يعرفون أحدث نظرياته وآثارها الإيجابية والسلبية على المجتمع. سأتوقف عندما يتوقفون عن وصف الدواء للناس بحجة أنه من الطب النبوي وهم لم يتخصصوا في الطب أصلا.

 

هل تتهمني أنا بعدم احترام التخصص؟ فماذا عن كل هذا العبث؟!

يعتقد البعض أن اعتراضنا على بعض ما يقوله الفقهاء منبعه عدم احترامنا للتخصص، بينما الحقيقة هي أننا نجادلهم لأنهم لم يحترموا التخصص واقتحموا مساحات لا تخصهم. وإن كانت العلوم في الماضي بسيطة ويسهل على الفقيه دراستها، فإنها لم تعد كذلك الآن.

 

لا أعتقد أني رأيت اعتراضا من غير المتخصصين بـ"العلوم الشرعية" على أحكام الصلاة أو الزكاة أو الحج، فهذا تخصص الفقهاء وهو ما نحترمه، لكننا نجادل عندما نجد تدخلهم في مسائل لم يأت فيها نص ديني ثم يتعاملون معها بسذاجة علمية ودون تخصص حقيقي، وهناك حكايات شهيرة عبر الزمان تكشف إصدار الفقهاء للأحكام رغم عدم التخصص والدراية الكافية؛ بداية من تحريم القهوة قبل مئات السنين، وحتى تحريم عملة البيتكوين حاليا. وقد رأينا في عصرنا الحالي أمثلة شهيرة لفقهاء اقتحموا وأفتوا في السياسة فضلوا وأضلوا رغم حسن نواياهم. ورأينا كيف أن تصوراتهم عن الدولة الإسلامية وهمية وساذجة وسطحية ولم تعد مناسبة لهذا الزمان، ولم تساهم إلا في زيادة الشقاق بين أبناء الوطن الواحد.

 

المشكلة أن غالبية الفقهاء يصدرون أحكامهم وفقا لتأويلات نصوص دينية، وليس وفقا لدراسة علمية حقيقية، فرفض نطرية التطور مثلا لم يأت من نقاش علمي حقيقي تمت من خلاله مراجعة الأبحاث ونتائجها، بل تم وفقا لتأويل نص قرآني يفيد أن آدم هو أول البشر، رغم أن النص القرآني يحتمل أن يكون آدم هو أول البشر العاقلين، وأن تكون هناك كائنات بشرية غير عاقلة وغير مكلفة عاشت في الأرض قبل خلق آدم. وبالتالي يحتمل النص أكثر من تأويل ولا يمكن الاعتماد عليه لرفض نظرية علمية، لكن الفقيه الإسلامي وقف متمسكا بتأويله الهزيل أمام النظريات العلمية المتلاحقة، فخلق هوة بين العلم والدين دون أن يقصد، ساهمت في عزوف الناس عن الدين أو في تعصبهم الأعمى له. أنت إذن أيها الفقيه تقتحم مجالا ليس بمجال تخصصك لتصدر حكما ليس من حقك أن تصدره، وهذا هو سبب اعتراضنا على ما تقول.

 

نفس الأمر مثلا يتعلق عندما يطالب بعض الفقهاء بعقوبة المجاهر بالفطر في رمضان، دون الأخذ في الحسبان تطور شكل الدولة أصلا وتطور علاقة المواطن بالحكومة، وانتهاء ما يسمى بـ"ولي الأمر" الذي يمسك العصا ويراقب الناس في الأسواق، ووجود دستور يعطي للمواطن الحرية الكاملة في اعتناق ما يريد، وأن الدولة عليها أن تنظم العلاقات بين الناس لا أن تجبرهم على شيء. انتهى شكل الدولة القديم لكن بعض الفقهاء جاؤوا بفتاوى قديمة من ألف عام وطالبوا بتطبيقها اليوم. وهكذا نجد من الفقهاء من لا يعرف شيئا عن أنظمة الحكم الحديثة، ورغم هذا يصر على أن يفتي مستندا لفتوى قديمة صدرت في دولة قديمة لم يعد لها وجود. ثم بعد كل هذا يتهموننا نحن بعدم التخصص!

 

ولا يعني هذا سحب الحق من الفقيه في إصدار حكم شرعي على أمر مستحدث، ولكننا نتحدث عن ندرة إصدار الأحكام وفقا لفهم حقيقي ومتخصص فعلا.

 

 اعتراضنا على ما يقوله بعض الفقهاء هو رفض لمحاولة فرض رأي بعينه علينا متجاهلا بقية الآراء الفقهية المعتبرة. لكن المشكلة أنهم يسفهون كل الآراء الأخرى حتى يفرضوا علينا ما يعتقدون أنه الحق
 اعتراضنا على ما يقوله بعض الفقهاء هو رفض لمحاولة فرض رأي بعينه علينا متجاهلا بقية الآراء الفقهية المعتبرة. لكن المشكلة أنهم يسفهون كل الآراء الأخرى حتى يفرضوا علينا ما يعتقدون أنه الحق
 
ثانيا: هل العلوم الشرعية علوم فعلا؟!

لماذا هناك أكثر من رأي في غالبية المسائل الفقهية؟ لأن الفقه ليس علما حقيقيا كالكيمياء يمكن إثباته في المعمل، بل هو أشبه بالعلوم الاجتماعية كعلم النفس مثلا، وهو ما يعني أنه يحتوي على نظريات قابلة للتبديل والتعديل والحذف لا على حقائق ثابتة، بل ويمكن كذلك الاعتماد على أكثر من نظرية في نفس الوقت لتفسير نفس الظاهرة.

 

لكن حتى علوم الاجتماع تبدو أكثر تماسكا من "العلوم الشرعية"، وذلك لأن الاختلاف في الفقه يصل إلى قواعده الأصلية، فإذا قلنا مثلاً إن الأدلة الكلية التي يتم استنباط الأحكام منها هي القرآن والسنة والإجماع والقياس، فإن هناك نظريات ترفض اعتبار السنة الآحاد دليلاً، وترفض الإجماع والقياس، ولها أدلتها القوية والمعتبرة. وهناك نظريات متناقضة تتحدث عن طريقة استنباط الأحكام من القرآن، منها مثلاً ما يعتبر النص مرتبطاً بسبب نزوله فلا يمكن استنباط الأحكام إلا من خلال فهم سبب النزول، ومنها ما يعتقد أن العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب. وهناك مذاهب تعتبر بعض الأدلة أقوى من غيرها بعكس مذاهب أخرى، فمنها مثلا ما يعتبر عمل أهل المدينة تواترا ويقدمه على حديث الآحاد، ومنها ما يقدم خبر الآحاد على عمل أهل المدينة.

 

هذا الاختلاف الكبير على مستوى الأصول يجعل كل الاحتمالات ممكنة في غالبية المسائل ما عدا المسائل قطعية الثبوت والدلالة، وهو ما خلق العداوة بين المذاهب المختلفة، فانبرت المذاهب في العراك والصراع فيما بينها ليحاول كل منها أن يثبت أنه على صواب وأن الآخر على خطأ، ولم ينجح أي طرف في الانتصار عبر التاريخ لأن النص يحتمل كل هذه التأويلات. نحن إذن لسنا أمام علم كالطب، بل نحن أمام وجهات نظر مختلفة للنص، الأمر الذي يشبه تذوق الناس المختلف لقصيدة شعرية، فيمكنك أن تجد جميع الأحكام من التحريم للإباحة مستمدة من نفس النص. وبالتالي اعتراضنا على ما يقوله بعض الفقهاء هو رفض لمحاولة فرض رأي بعينه علينا متجاهلا بقية الآراء الفقهية المعتبرة. لكن المشكلة أنهم يسفهون كل الآراء الأخرى حتى يفرضوا علينا ما يعتقدون أنه الحق.

 

ثالثا: هل لا يحق للمرضى مجادلة الأطباء؟

عندما نجادل الفقهاء فذلك لأننا كالمرضى، فنحن من ستطبق علينا أقوالهم وفتاويهم ومن ستتأثر حياتنا بها، فمن أبسط حقوقنا أن نعرف ونجادل ما نعتقد أنه غير منطقي قبل أن نطبقه

حسنا.. لا يحق للمريض أن يصف دواء لنفسه، لكن يحق له أن يرفض دواء وصفه الطبيب ويذهب لطبيب آخر. كذلك لا يحق للسائل أن يفتي لنفسه لكن يحق له كذلك أن يرفض فتوى الفقيه ويذهب لغيره. ولا يحق للطبيب أن يعالج المريض دون أن يخبره بالأسلوب الذي اختاره لعلاجه ولماذا رفض أساليب العلاج الأخرى، وإذا رفض الطبيب إخبار المريض بهذا بحجة أن المريض لن يفهم، فهذا لا يحدث إلا في الدول النامية. وكذلك لا يحق للفقيه أن يفتي السائل دون أن يشرح له لماذا اختار هذه الفتوى دون غيرها، وينبغي على الفقيه الأمين أن ينبه السائل لوجود فتاوي أخرى لمذاهب أخرى ويعطيه حق اتباعها، بدلاً من تشويه هذه المذاهب وتكفيرها واعتبار مذهبه هو الحق الذي لا شك فيه.

 

وبالتالي، نحن عندما نجادل الفقهاء فذلك لأننا كالمرضى، فنحن من ستطبق علينا أقوالهم وفتاويهم ومن ستتأثر حياتنا بها، فمن أبسط حقوقنا أن نعرف ونجادل ما نعتقد أنه غير منطقي قبل أن نطبقه على أنفسنا. وأذكر أني رفضت العلاج مع أحد الأطباء لمجرد أنه لا يتناقش معي، بل يخبرني بما علي أن أفعله فقط رافضا توضيح السبب معتبرا أني لن أفهم هذه الأمور المتخصصة. حسنا، أنا لن أسمح لك بتجربة علاجك في جسدي ما لم أكن مقتنعا بما تقول، كما لن أسمح للفقيه بالعبث في حياتي دون أن أقتنع بما يقول.

 

والحقيقة أن هناك أمورا أعتقد أنه لا يمكن لأي شخص حتى ولو كان غير متخصص أن يجعلها تمر مرور الكلام دون أن يعترض عليها. مثلا؛ اعتبار الإجماع دليلاً كليا هو أمر لم أستطع تقبله بعد قراءتي المستفيضة فيه، وحجية الإجماع بالنسبة لي تمت بطريقة لا علاقة لها بالعلم إطلاقا، بل هي أقرب إلى العبث والتهريج، ومع احترامي لجميع الفقهاء، لكن هذا رأيي الشخصي الذي يلزمني وحدي. وقد وضحت اعتراضاتي عليها في تدوينة سابقة بعنوان "لماذا توقفت عن الجدال حول القضايا الفقهية؟".

 

الحقيقة أنني سألت الكثير من علماء الأصول حول هذه المسألة ولم يفلح أحدهم في إقناعي، ووصلت لنتيجة أنهم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري فلن أؤمن بهذا الإجماع، وأنا على استعداد تام لأقابل الله عز وجل وأخبره أنني لم أستطع الاقتناع بهذه القاعدة وقررت ألا ألتزم بأي رأي فقهي يصدر من خلالها، فقد حاولت أن أقتنع والله ولم أستطع، ونفس الأمر ينطبق على العمل بحديث الآحاد. هذا ما اقتنعت به بعد دراستي ولا أستطيع أن ألتزم برأي الفقهاء لمجرد أنهم متخصصون، فهذا الانسياق الأعمى ليس من طبيعتي.

 

كل العلماء يحبون أن يسمعوا آراءً مختلفة قد تساعدهم في فهم أعمق لعلومهم، لكن الكثير من الفقهاء يرفضون أن يسمعوا ولو رأيا مخالفا واحدا ويعتبرونه ضلالا وحيادا عن الحق
كل العلماء يحبون أن يسمعوا آراءً مختلفة قد تساعدهم في فهم أعمق لعلومهم، لكن الكثير من الفقهاء يرفضون أن يسمعوا ولو رأيا مخالفا واحدا ويعتبرونه ضلالا وحيادا عن الحق
 
رابعا: هل من الطبيعي أن يرفض العلماء رأيا من غير متخصص؟

صراحة، لقد تناقشت في حياتي مع عدة علماء ومتخصصين في مجالات مختلفة من العلوم، فلم أجد من يتعصب لرأيه ويسلبني حقي في الاعتراض بحجة أني غير متخصص أكثر من الفقهاء وتلاميذهم. كل العلماء يحبون أن يسمعوا آراءً مختلفة قد تساعدهم في فهم أعمق لعلومهم، لكن الكثير من الفقهاء يرفضون أن يسمعوا ولو رأيا مخالفا واحدا ويعتبرونه ضلالا وحيادا عن الحق وزندقة وربما كفرا.

 

لم أسمع يوما عبارة "إنت فاكر نفسك مين عشان تتكلم في الموضوع ده؟" إلا من الفقهاء أو تلامذتهم، وهو ما لا يعني لي إلا أمرا من اثنين: فإما هو الغرور الذي بلغ عنان السماء، وإما التعصب الشديد لمعرفتهم أنهم يدافعون عن قواعد هشة لا تصمد مع أي منطق حقيقي. وبالطبع لا أشمل جميع الفقهاء بمقالتي، فهناك من نزع هذا الغرور والتعصب عنه، وتجادل وتناقش واستمع، ولكنهم للأسف قليل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.