شعار قسم مدونات

ولا زال الحبل على "الجرّار"

blogs أحمد نصر جرار

كنت أظن عهدَ المطارَدين قد انتهى، وأننا في زمن يستطيع العدو أن يكشف بأجهزته وتطور عدته كل تفاصيل الأرضِ وبيوتها وحجارتها، وأن ما كنا قديما نقرأه عن قصص المقاومين الذين يتعبون العدو خلفهم لم تعد قيد الوجود الآن أبدا. كنت أظن ذلك حتى أتى أحمد، الشاب الذي لا يزال في بداية العشرينيات من عمره، بهيّ الهيئة، فتيا. الشاب الذي عايش والدهُ وقد هُددَ بالاغتيال مرارا، حتى نال هذا الاحتلال من قدمي الأب في إحدى المقاومات، ثم ارتقى شهيدا عندما كان أحمد لا يزال صغيرا، فإذا بأحمد هذا يكبر وفي روحه عهد هذي الأرض ونفَس هذه المقاومة. 

نتابع الأخبار منذ أيام فإذا بها تؤكد لنا استشهاد أحمد تارة ثم تنفيه تارة أخرى ثم تعاود تأكيده، وهكذا.. وبينَ هذا وذاك يطارد العدو بكل قواه شابا لا يدرون أي أرض تحميه، وأي سماء تؤويه، وبين هذا وذاك تنبض أفئدتنا المتابعة للخبر ما بين دعاء له ولأمه، وما بينَ الحمد بأن أنفاس المقاومة لا تزال في الشباب، ولا زال من بيننا مَن اختارها دربا، وارتضاها سبيلا وحياة. 

"استشهد أحمد" هذا ما قالته وسائل الإعلام صباحا، هذا ما تناقلته الصفحات مصحوبة بصورة شهيد يرتقي من الأرض مقبلا غير مدبر، يرتدي معطفه الأخضر، كقلبه المخضر بالحياة، وهل يدرك أحد قيمةَ الحياة كما الشهداء؟ 

لا زلت كلّما رأيت صورةَ شهيد مُقاومٍ أتعب العدو ونال منه أردد بأعماقي ترديدة الطفولة التي كبرت معنا: "فتنت روحي يا شهيد"، تأسرني هذه الشهادة بكلّ تفاصيلها، إذ أي صدق ذاك الذي يمنحهم القدرة على الترك، أي أمانة تلك التي يرعونها في أعناقهم تدفعهم على اختيار طريق تخلى عنه كثيرون، أي تربية تلكَ التي تعاهدتهم حتى جعلت هذا الوطن عقيدة لا حياد عنها ولا تنازل ولا مفاوضات. بماذا تهمس الأرض في أذن الشهداء؟ أيسمعونَ الثرى المعبّق بالدماء يتلو عليهم علامات القبول؟ أينظرون جنةَ الدنيا تزفهم لجنات النعيم الخالدة؟ 

مباركة أرض المقدس بكل ما فيها، بأقصاها، بزيتونها، بأرواحِ المقاومين فيها، مباركة هذه الأرض ودود ولود كلّما ظننا أنفاس المقاومة قد خفتت فيها أتتنا بشبابٍ يكبرون وفي داخلهم نبض مقاومة لا يخفت
مباركة أرض المقدس بكل ما فيها، بأقصاها، بزيتونها، بأرواحِ المقاومين فيها، مباركة هذه الأرض ودود ولود كلّما ظننا أنفاس المقاومة قد خفتت فيها أتتنا بشبابٍ يكبرون وفي داخلهم نبض مقاومة لا يخفت
 

لا حزنَ على الشهداء بل دعاء بالقبول والبركة، وتهنئة للوطن بأمثال هؤلاء، وسؤال للهِ بالربط على قلوب الأمهات والأحباب. لكن الحزنَ الذي تبعثه دماء الشهداء فينا علينا، على الأرض التي يخذلها الخائنون، على القدس التي ربّما تشغل الحياة بعضنا عنها. لا خوف على الشهداء فهذا الدرب يليق بهم، وهم الأحياء رغم موتهم، وهم الباقون رغم رحيلهم، لكن الخوف علينا أنملك اللحاق بهم؟ 

ظن العدو أن الفلسطيني الذي أجبروه على امتلاك هوية "إسرائيلية" وأطلقوا عليه لقب "عرب إسرائيل" سيكون كذلك فعلا، فإذا بمقاومين يخرجون من هذه الأرض المحتلّة أطفالا وكبارا، لا يكفّهم عن المقاومة قيد أسر أو تضييق عدو. ثم ظن العدو أن ابن الضفة إذ منع من زيارة القدس سينساها، وستغدو بلاده كأي بلاد بعيدة عن الحدث، آمنة لا تريد القرب من أي مشاكل.

 

فإذا بابن الضفة يرهقهم مطاردة وبحثا، فيكون شهيدا أو مشروع شهيد، وإذا بالضفة تقذف على العدو فلذاتها، شابا كأحمد يذكرك بقصة مصعب بن عمير الذي كنا نغني حكايته قائلين "وكان مصعب معطّرا" فإذا بأحمد يشبهه ببهاء الهيئة ورغد العيش وابتداء العمر وصدق الترك، لذلك كلّه في سبيل الحق الذي رآه، والإيمان الذي اعتنقه. ثم ظن العدو أن الفلسطيني في الخارج سترهقه شؤون الحياة فينسى الوطن في سبيل تأمين لقمة العيش وأساسيات الحياة، فإذا بأبناء من الخارج ينقلون الهمّ معهم للعالم أجمع؛ ويحيون دونَ أن تحيد عن الأقصى أعينهم. 

مباركة أرض المقدس بكل ما فيها، بأقصاها، بزيتونها، بأرواحِ المقاومين فيها، مباركة هذه الأرض ودود ولود كلما ظننا أنفاس المقاومة قد خفتت فيها، أتتنا بشباب يكبرون وفي داخلهم نبض مقاومة لا يخفت، يحملون العهد في صدورهم أمانة لا يحيدون عنها أبدا. بمثل هؤلاء تستبشر صباحتنا، ونجدد إيماننا بأن: لا زال الحبل على "الجرّار" يرسل إلينا مقاومين ومناضلين كأمثال أحمد الجرار وغيره. 

هذه هي الدنيا، وهذا هو الاختبار الذي أوكل فيها إلينا، وهذا هو العمر الذي يمتلئ بالعدو والخائنين، لا فرار من هذه الاختبارات في هذه الأرض أبدا، لكن القرار قرارك أتكون ممن مضى بعهده وعهد مرتضيا هذا الدرب رغم تبدّل المتبدلين، أم تخلي مع من تخلى من المتخلّين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.