شعار قسم مدونات

تجارب تجعلك أكثر نضجا

blogs - airplane

لست أذكر جيدا أين قرأت المقولة التي تعدد ست تجارب لم ينضج بعد من لم يجربها، منها السفر وحيدا، والعمل ضمن مؤسسة، وإنجاب الأطفال، وأمران آخران ثالثهما العيش وحيدا.

 

كنت قد انتقلت إلى منزل جديد منذ ستة أشهر تقريبا، أعيش فيه وحدي، يمر اليوم كاملا من شروق الشمس إلى غروبها وأنا لا أنبس ببنت شفة، أصحو أحيانا أرتجف من البرد وأحاول تشغيل المدفئة الكهربائية لأجد الكهرباء مقطوعة، فأتعلم الذهاب إلى مكاتب شركة الكهرباء لأقوم بتسديد الفواتير، أصحو أياما أخرى لأجد المياه مقطوعة فأتعلم ضخ المياه من البئر إلى الخزانات، وأتعلم تفقد تواريخ صلاحية الأطعمة، وكيفية انتقاء الخضار، وشراء مستلزمات المنزل، أصبحت لدي قائمة دائمة للمستلزمات أقوم بتحديثها دوما، تعلمت لأول مرة غسيل الملابس، وشراء مياه الشرب وحمل القارورات الكبيرة وأكياس التسوق، وفن الصمت.
 
هذه التجربة المميزة الغنية جدا والمغامرة الخطرة بعض الشيء، قوبلت باستهجان وتمتمات كثيرة من قبل مجتمعي الصغير، بدءا بعائلتي التي رفضت أن أعيش في منزل وحدي بعد زواجي بينما منزل عائلتي يقع في نفس المدينة، وليس انتهاء بالجيران الذين يصمتون أمامي لكنهم ربما يتكلمون كثيرا من خلفي، لكنها ككل الأشياء الجديدة الغريبة على مجتمع محافظ، تُنسى بعد حين.
    

لا أنكر إطلاقا أنني كنت أتحرك بحذر، لكن الحذر شيء، والإقفال على نفسك في المنزل شيء آخر، الحذر والشعور القليل بالخوف هذا مفيد ومهم ليبقيك على قيد الحياة ويبقيك في مأمن

الوحيدة التي لم تنسَ هذه التجربة هي أنا، أنا التي اخترت العيش وحيدة رغم مصاعب التجربة لأشعر بالمسؤولية أكثر، لأتعلم أكثر، عن نفسي وعن الحياة، لأكتشف مدى قوتي في مواجهة الحياة، ولتمتلئ أيامي بالمغامرة والشعور بالترقب في كل حين.
   
أذكر الأيام الأولى كيف قضيتها باكية، أرتجف خوفا كلما سمعت صوتا ما، لا أطهو الطعام وإنما أعيش على الوجبات السريعة، أذكر مذكراتي في الدفتر البني وأنا أكتب أن المواجهة مع الحياة لم تعجبني، وأنني أرغب بالتراجع، لكن كل ذلك مر، واكتشفت أنه أمر أهون مما يُصور أو يشاع عنه.
   
خلال تلك الفترة، أردت كذلك خوض التجربة الأكثر خطرا ومغامرة؛ السفر وحيدة. سافرت وركبت طائرة تعطلت قبل الإقلاع بدقائق، وارتج جسدي كله بين المطبات الهوائية في طريق العودة، نمت في فنادق منخفضة وعالية التكلفة، في أحياء شعبية قديمة وفي أماكن راقية، اشتريت وساومت الباعة، تنقلت في المواصلات العامة في ساعات الذروة فوق الأرض وتحت الأرض ووسط الماء، التقطت الكثير من الصور وأجريت محادثات عابرة وكونت أصدقاء عابرين سريعين، وأكلت طعاما من أيادي الغرباء، كنت أخرج مع شروق الشمس ولا أعود قبل أن أنهك تماما حوالي منتصف الليل، ولم يحدث لي مكروه قط، ذهبت وعدت ولم يحدث شيء مما كنت أسمعه طوال حياتي عن الذئاب البشرية التي تتربص بكل أنثى.

  

كلما نضج الإنسان أكثر، كلما أصبح أكثر حكمة، والحكمة تؤتى من عند الله، ومن يؤت الحكمة، فقد أوتيَ خيرا كثيرا
كلما نضج الإنسان أكثر، كلما أصبح أكثر حكمة، والحكمة تؤتى من عند الله، ومن يؤت الحكمة، فقد أوتيَ خيرا كثيرا
   

لا أنكر إطلاقا أنني كنت أتحرك بحذر، لكن الحذر شيء، والإقفال على نفسك في المنزل شيء آخر، الحذر والشعور القليل بالخوف مفيد ومهم ليبقيك على قيد الحياة ويبقيك في مأمن، في النهاية تجربة "السفر وحيدا" هي الأخرى ظهر أنها أقل صعوبة مما يُظن.

 

بالعودة إلى فكرة أن هذه التجارب تجعل من الإنسان أكثر نضجا، أسائل نفسي: هل حقا أشعر أنني نضجت أكثر خلال الأشهر الماضية بسبب هاتين التجربتين؟ وهل يمكن لإنسان أن يخوضهما دون أن ينضج أكثر؟ يصبح أقل إطلاقا للأحكام مثلا؟ أو أكثر صبرا وحكمة وتريثا؟

 

أعتقد أن هناك عاملا آخر أكثر أهمية من التجارب، أحب أن أسميه: القابلية. القابلية لأن تنضج وتتطور، ويمكن أن تتفاوت قوة هذا العامل من إنسان لآخر؛ فقد يجلس أحدهم في منزله يقرأ الكتب ويطالعها ويتفكر ويراقب ويحلل، فينضج أكثر ممن يسافر ويعمل في وظيفة ويملك أبناء يعيلهم، وقد يقرأ اثنان كتابا ما، فيخرج الأول وقد تطور في عقله وقلبه ما لم يحدث لدى الآخر، الفرق بينهما في المثالين، هو القابلية للنضج. كلما نضج الإنسان أكثر، كلما أصبح أكثر حكمة، والحكمة تؤتى من عند الله، ومن يؤت الحكمة، فقد أوتيَ خيرا كثيرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.