شعار قسم مدونات

الليبراليون سبب نكبة الثورة

blogs الثورة المصرية

قد يبدو العنوان غريبا بعض الشيء، إذا كان كاتب السطور يتخذ من مبادئ الليبرالية بوصلة لتعامله مع الآخرين، ولكني أعنيه تماما ولا نية عندي لتغيير المعني في السطور القادمة، نعم فأنا أحمل نفسي وباقي تياري المسؤولية عن الأزمة والمحنة القاسية التي تمر بها ثورة الخامس والعشرين من يناير العظيمة.

 

بداية فأنا لا أعتبر ما نمر به هزيمة للثورة، بل أرى أن الثورة في محنتها الحالية تمر بمرحلة طبيعية بشكل ما من مراحل أي ثورة شعبية تقوم في وسط ظروف كتلك الظروف التي يعيش فيها المصريون، صحيح أنه كان يمكن تفادي أو تخفيف أثر ذلك التراجع الحاد، وتلك الردة على كل ما نادت به الثورة إلى النقيض، ولكن هذا هو المقصد من العنوان، الثورة تمر بذلك المنحني الحاد والخطير في مسارها بذنب الليبراليين وحدهم دون غيرهم.

 

لم ير المواطن العادي من ثورة يناير إلا صراعات علنية بينهم، واتهامات متبادلة من ذلك الطرف إلى الآخر وبالعكس، وبقي في خلفية المشهد أصحاب الزي العسكري وحدهم بلا أي شوشرة

تتحكم الدولة العسكرية أو القلب الصلب للنظام الذي قامت عليه ثورة يناير في الأساس إثر الخلافات الحادة التي نشبت بين التيارات السياسية المختلفة التي ظهرت في المشهد إثر حدوث شرخ في جدار دولة مبارك العتيقة، والتي على أثرها سقط رأس النظام -الرئيس مبارك- وأركان حكمه "المدنيين"، وعلى خلفية تلك الخلافات والتي وصلت إلى الاشتباكات في الشوارع بالسلاح، ظهر المنقذ في زيه العسكري، حاملا صولجانه متحدثا بنعومة لا تليق بالزي المهيب إلى الشعب، واعدا إياه بتحقيق ما فشل في تحقيقه من ثاروا على مبارك، وابتلع الشعب المطحون تحت وطأة الظروف القاسية التي عاشها، والتي توسم في أبناء ثورة يناير قدرتهم على تغييرها فلم يجد -هكذا رأيي- منهم أي جديد، بل على العكس زادت الصورة قتامة وزادت حياته صعوبة.

 

لم ير المواطن العادي من ثورة يناير إلا صراعات علنية بينهم، واتهامات متبادلة من ذلك الطرف إلى الآخر وبالعكس، وبقي في خلفية المشهد أصحاب الزي العسكري وحدهم بلا أي شوشرة عليهم منذ أن أعلنوا موعدا لتسليم السلطة وإقامة الانتخابات الرئاسية التي وصل على إثرها الإسلاميون إلى السلطة، وكانت تلك بعينها اللحظة التي راهن عليها العسكريون، ومن خلالها أصبحت مسألة عودتهم للسلطة مسألة وقت لا أكثر ولا أقل.

 

وأنا هنا لا ألقي الاتهامات على أبناء التيار الإسلامي، فلا لوم على طرف أجاد في طريقه إلى بناء شعبيته، ولا لوم على طرف يمتلك نقطة قوة مؤثرة -ورقة الدين- فاستغلها في مناخ مهيأ لاكتساح الخطاب الديني كل ما أمامه باستثناء الخطاب المقابل له من الدولة العسكرية، ولكن اللوم فقط على أبناء التيار الليبرالي في عدم قدرتهم على بناء تنظيم واحد بدون الدخول في صراعات داخلية مع أشخاص بعينهم دأبوا على التنفيذ في داخل التنظيمات بغرض تفجيرها في النهاية.

 

التيار الإسلامي الأهم متمثلا في جماعة الإخوان المسلمين -بوضوح- لم يكن في استطاعته مقاومة المزايدة عليهم دينيا من قبل التيار السلفي، الذي ظهر على السطح بطريقة درامية وبطريقة غير عفوية بشكل لا تخطئه أعين أي مراقب للحدث. في النهاية الخطاب الديني الذي يجسده شعار "الإسلام هو الحل" لجماعة الإخوان هو رأس مال الجماعة، وبالتالي التخلي عنه أو الظهور بمظهر الأقل تشددا فيه هو إعلان رسمي لوفاة التنظيم قبيل لحظة التمكين التي بني التنظيم من أجلها منذ ما يقارب الـ٩٠ سنة من الآن، وبالتالي انتظار تخلي الإخوان عن رأسمال الجماعة المتمثل في دولة إسلامية يمثلها شعار "الإسلام هو الحل" هو طلب مستحيل وغير مشروع للجماعة، وهو المشروع الذي -بالضرورة- سيصدم قطاعات وشرائح في المجتمع لديها حلم الحياة في دولة عصرية وتحقيق أحلام وطموحات جيل رأى العالم المتقدم من خلال تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين، فضلا عن غير المسلمين ممن يحملون الجنسية المصرية ويعيشون على أرضها، وفرض مشروع إسلامي عليهم أمر لن يجعل منهم مواطنين على نفس درجة التساوي مع أقرانهم المسلمين. ولهذا حديث مفصل آخر.

 

الليبراليون وحدهم هم من يجب عليهم تحمل مسؤولياتهم مهما كانت العقبات ومهما كان المناخ للخروج من نفق الدولة العسكرية المظلم والكارثي
الليبراليون وحدهم هم من يجب عليهم تحمل مسؤولياتهم مهما كانت العقبات ومهما كان المناخ للخروج من نفق الدولة العسكرية المظلم والكارثي
 

ولذلك، فالفرصة الوحيدة التي كان من الممكن أن تُسقط أحلام ذوي البزات المرصعة بالنجوم على الأكتاف، أن يكون المقابل والمعبر عن ثورة يناير دولة عصرية ليبرالية تقدم حلولا لمشاكل المجتمع، تقوم على احترام حرية الإنسان في اختيار أسلوب الحياة المناسب له، وتقدم حلولا اقتصادية واجتماعية لمشاكل المواطن العادي، وتقدم نموذجا يضم جنبا إلى جنب في مؤسسات التشريع والرقابة جميع التيارات (إسلامي، يساري، قومي، إلى آخره) بناء دولة تقوم على أكتاف الجميع، وإضفاء روح التسامح والإيخاء في المجتمع، ونبذ التعصب والكراهية.

 

وحده النموذج الليبرالي من يستطيع استيعاب تناقضات الجميع دون تفرقة ودون تحيز لطرف دون الآخر، في الأساس ظهرت الليبرالية كحل للقضاء على الحروب الدينية الطاحنة التي اجتاحت أوروبا. وحين ظهرت الفاشية في أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين وعصفت بالجميع لم يجد العالم ملجأً إلا الليبرالية ليتوحد تحتها لهزيمة الفاشية تحت شعار "العالم الحر"، ولهذا الليبراليون وحدهم هم من يجب عليهم تحمل مسؤولياتهم مهما كانت العقبات ومهما كان المناخ للخروج من نفق الدولة العسكرية المظلم والكارثي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.