شعار قسم مدونات

السجن مكان لاكتشاف الموهبة؟

blogs - prison

السجن كلمة موحشة مُرعبة، تكسي ظلالا من الظلمة والقهر وحبسِ الحرية، وانتظار الأيام والسنين، وإحصاء الدقائق والثواني، وقد أسبغت عليها الأوساط الثقافية في كثير من اللغات غطاء مهولا من الوحشة والفزع تجعل كثيرين يفضلون الموت على السجن في بعض البلدان.

 

السَّجينُ هو الآخر موضوعٌ تعْتريه علائق حرِية بالتأمُّل فهو من جهة يُنظرُ إليه نظرة الشَفقة والرحمة إذ يُحرمُ من أغلى من يملِكُه الإنسان وهو الحرّية، ومن جهة أخرى ينظرُ إليه نظرة الاحتقار والازدراء بسبب جريمته التي أدت به إلى السّجن من قتل أو سرقةٍ أو اغتصابٍ أو ما شابه!

  

السّجنُ كلمة يُمكنُ أن تُترجم إلى كلِّ لغاتِ الدّنيا، ولكن ظلالها التي تثيرها، والأحوال التي تعتري هذا المكان، وما يحيطُ به في الداخل والخارج، لا يُمكن أن تُترجم إلى جانب الكلمة، فالحديث عن سجونِ سوريّة مثلاً التي شاءت الأقدار أن يتجرّع كاتبُ هذه السطور من حميمها، لها وقْعٌ غيرُ سجون ألمانيا التي يعيشُ كاتب هذه السطور في بلادها ويتابِعُ أخبارها.

 

المُعتقل؛ وإن كان يُسمّى أيضا في بعض الأحيان "سجناً" شيء لا يمت إلى "السجن" بأي صلة. هو قطعة من الأرض المجهولة، تكون في غالب الأحيان تحت الأرض بطوابق عديدة

في سوريّة هناك تفريقٌ في الظروف والأحوال بين كلمتي "السّجن" وشقيقة أخرى لها أشدُّ هولا هي "المعتقل". السِّجن تُطلق في غالب الأحوال على المكان الذي يُعتقل فيه أصحاب الجنايات التي تخالفُ القانون من قتْل أو سرقة، أو ما شابه ذلك، وهو في الغالب مكانٌ معروفٌ تموْضُعُه على الخريطة السُّورية، ومُصرّحٌ به للمنظمات الإنسانية، ويحظى السّجينُ فيه بحقِّ توكيل محامٍ لتولّي قضيته، وبحقِّ زيارة أهله وأقاربه له؛ بل يُمكن له أن يُدخل المال إلى داخل الأسوار

 

ولكنَّه إلى ذلك مكان يُجمَعُ فيه الناس في مهاجِعَ جماعيّة، تُأجَّرُ فيها الأسِرَّة والفُرشُ بالمال، يتقاضاها القُدماءُ من السُّجناء من أصحاب الجنايات الكُبرى الذين يقبعون هناك أكثر من عشرِ سنين ويُسمَّون في العموم "رئيس القاووش" أي رئيس المهجع، بالتواطُؤ طبعاً مع الشُرطة خارج الأسوار مما يمنَحُهم سُلطة شِبه قانونية في التّحكم بالسُّجناء الجُدُد ومصِّ دمائهم وتسخيرهم للأعمال اليومية الخسيسة من التنظيف، والطبْخِ وربما الخدمة.
 

ناهيك عن العُنف الذي يتعرَّضُ له السّجناء حين يخالفون الأوامر، وربما في حالاتٍ كثيرة يتعرضون للاعتداء الجنسي، ولا يجرؤون على التقاضي أو الشكوى؛ لأن نظام الرَّشوة الذي أصبَح قانوناً عاماً في السّجن -وأسمّي هنا على سبيل المثال بِحُكم الاطلاع والخبرة سجْن عدرا قُرب دمشق-  جعلَ من السُّجناء القُدماء أصحاب أموالٍ يُمكن أن يشتروا ذمّة أكبر حارسٍ أو شُرطيٍّ، وربّما قاضٍ خارجَ الأسوار. على الرّغم من هذه الأهوال التي تُحيطُ بالسِّجن إلا أنه يُمكن أن يتحوّل إلى أُمنية بعيدةِ المنالِ لمَن حُكم عليه بالاعتقال فيما يُسمّى بالمُعتقل كالتجربة التي مرَّ بها كاتب هذه السُّطور.
 
المُعتقل؛ وإن كان يُسمّى أيضاًفي بعض الأحيان "سجنا" شيء لا يَمُتُّ إلى "السَّجن" بأيِّ صِلة. هو قطعةٌ من الأرضِ المجهولة، تكون في غالب الأحيان تحتَ الأرض بطوابق عديدة، لا يُساقُ إليه أصحاب الجنايات الفظيعة، بل يُقادُ إليه معتقلو الرأي والمطالبون بالحُريّة، والتغيير السياسي. المُعتقلون في هذا النوع من السُّجون لا يدري بمكانهم أحدٌ، ولا يحقُّ لهم أن يوكِّلوا محامياً يتولّى قضيتهم، ولا يمكن لأيِّ أحدٍ من أهلهم أو ذويهم أن يزوروهم، ناهيك عن أن يسألوا عن مكانهم. في هذه الأمكنة المجهولة يُحرمُ المعتقل من أدنى حقوق الإنسانيّة، فلا استراحة تنفُّسيَّة يومية كما هو الحالُ عادةً في السّجون التقليدية، ولا استحمام لتنظيف البّدَن إلا كلَّ ثلاثة أشهر مرّة، ولا حتّى قدرة على التواصل مع العالم الخارجي، ناهيك عمّا يُكالُ للمعتقل في فترة التحقيق من التعذيب الوحشي والنفسي الذي يُمكن أن يصلَ في حالاتٍ عديدة تفوق الحصر إلى الموت، وسرقة الأعضاء، وقَدْ وثّق ذلك مؤخرا بعد الثّورة السّورية.  

    

سجن صيدنايا قرب مدينة دمشق - سوريا  (رويترز)
سجن صيدنايا قرب مدينة دمشق – سوريا  (رويترز)

 

في ألمانيا تختلفُ إيحاءاتُ كلمةِ السِّجن قدرا ليس بالقليل؛ خصوصا لمن كان مهتمّا بالأمر وعلائقه. السِّجنُ في ألمانيا على ما فيه من ميزاتٍ يَعدُّها البعض رفاهية في كثير من دول العالم، هو في النهاية مكانٌ تُحبسُ في الحُرّيةُ، ويُحرم فيه السّجين من العالم الخارجي، وليس بعيدا في بعض الحالاتِ أن يتعرَّض السُّجناء الجُدد لبعض الاعتداءات من النزلاء، ولكنّها في الغالب يكون لها مساءلةٌ قانونية، ولا يخفى أيضا أن يتحوّلَ السّجينُ فيه من صاحبِ جناية صغيرةٍ إلى مُجرمٍ خطيرٍ، بعد مرروه بجملة من الظروف ليس آخرها التعرفُ على سُجناء من هذا النوع. 

  

ولكنْ إلى جانب هذه الظلال الموحشةِ التي لا يخلو منها أرقى أنواع السُّجون في العالم، يبقى السِّجنُ في ألمانيا مكانا يختلف تماما عن قرينه في سورية. فالسجين يحظى بكلِّ حقوقه الإنسانية، ويمكن له أن يُقدّم طلبا بتغيير مكانِ سجْنه لو أثبت أنّه مهدّدٌ فيه بأي نوعٍ من التهديد، ناهيك عن الفُرصِ التي تُعطى للسُّجناء من أجل إخراجِهم من ظلام الجريمة التي جرّتهم إلى السّجن، كالمكتبات، وقاعات المطالعة، ومشاهدة الأفلام السينمائية، وفُرص التحصيل الدراسي المدرسي وحتى الجامعي، إضافة إلى الدَّعم النفسي والرُّوحي؛ ففي كلِّ سجنٍ ألماني مكانٌ للعبادة والتنسُّك، وفي بعض الأحوال هناك رجالُ دينٍ من أديان مختلفةٍ موظفون في السِّجن يقومون بالعبادات اليومية أو الأسبوعيّة مع السُّجناء.
    
كلمةُ المعتقل التي تمَّ الوقوف عليها في الحالةِ السّورية، لا يكادُ يوجَدُ لها مكان في ألمانيا، فحتى مجرمو الإرهاب يُمكن أن يحظوا بما يحظى به باقي السُّجناء من الاحترام الإنساني. كلُّ ذلك مألوفٌ ومعروف للقاصي والداني، ولكنَّ المُبادَرة التي قامَ بها سجنُ "فيس بادن" في ولاية هيسن الألمانية كانت شيئا غير مألوفٍ وجديرا بالاحترام. السِّجنُ هناك أقامَ مشروعا لإقامة مسرحٍ يكون الممثلون والأبطال فيه من السُجناء أنفسهم. السُّجناء المتطوِّعون للتمثيل المسرحي حظوا بفُرصة التدريب من مُحترفٍ من غير مراقبة الحُرّاس، ليُمثِلوا مسرحية "اللصوص" لأديب ألمانيا الشهير "شيلر".
 
أما المشاهدون فهم من خارج أسوار السّجن يدخلون لمشاهدةِ المسرحّية بعد الإعلان عنها. السُّجناء المتدرِّبون تكلموا بفرحة عارمة عن التَّجْربة التي وصفوها بالرائعة، وعبّروا عن قدرتهم على التّحرر النفسي، وإعادة الثقة إلى أنفسهم من جديدٍ؛ بأنهم قادرون على فعلِ شيء غير الجريمة، أما المُدرِّبُ المسرحيّ الذي له خبْرةٌ طويلة في التعامل مع السُّجناء، فقد أبدى دهشته من قدرة بعضهم على التمثيل، وحفّز شابّا منهم للاهتمام بموهبته ورعايتها ليخرجَ الأخير من السِّجن ويدرس في معهد الفنون المسرحية في فرانكفورت.
   
المُبادرة هذه -ضمن سياق السّجنِ وما يعتري السُّجناء في هذه البلاد من شعورٍ بالإحباط واليأس وبأنهم عالةٌ على المجتمع- قد أعطتهم فُرصة جديدة للحياة، وبأنَّ في داخل كلِّ واحدٍ منهم قُدرة كانت يُمكن أن توظَّف بشكل إيجابي خارجَ السِّجن لو لقيت الفُرصة المناسبة لها، مما يحيلُنا إلى إعادَة النّظر في العقوبة نفسها، وبأنها سبيلٌ لإصلاح النفس التي يُمكن أن تكون الحياة قد دفعتها إلى الجريمة في ظرف من الظروف، لا على أنها سبيلٌ للتشفي الاجتماعي، أو السُّلطوي من المُجرم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.