شعار قسم مدونات

كيف اختار السيسي مصيره في "دولة النبوت"؟

blogs السيسي

قديما في تراث الحارة المصرية كان يوجد ما يُعرف بـ "الفتوة"، وهو الذي كان يجمع من أهل الحارة "الإتاوات" مقابل حمايتهم من أي هجمات خارجية، وكذلك من أجل فض النزاعات بينهم، إلا أن مفهوم "الفتونة" كما يعرفها المصريون في النموذج المثالي كان يتضمن صفات حميدة بجانب مسألة القوة كالشجاعة والشهامة و"الجدعنة" والوقوف بجانب الضعفاء.

 

أما "الفتوة" الظالم فهو أقرب في صفاته لـ "البلطجي" وكثيرا ما كان "البلطجية" أبعد عن النموذج المثالي للفتوة، فتجد "البلطجي" الذي يلبس ثوب الفتوة ينحاز لأغنياء الحارة على حساب فقرائها، ويسرف في فرض "الإتاوات" على الناس دون مراعاة لظروفهم، ويقمعهم أكثر مما يحميهم، ويمن عليهم بتلك الحماية من المخاطر الخارجية التي قد تحيط بهم من فتوات الحارات الأخرى.

 

تتيقن من حديث السيسي الأخير أننا أمام "بلطجي" تقليدي جدا اختطف الدولة تحت تهديد السلاح، ودائم التحذير من الأخطار المحدقة في حال غيابه عن المشهد، وكذلك دائم الربط بين الدولة وشخصه

وقد نجحت كتابات الأديب المصري الفذ نجيب محفوظ كثيرا في تصوير جوانب عدة لحياة المصريين في الحارة مع فتواتهم والبلطجية، حيث الثورات والمعارك والانتصارات والهزائم، وقد تستطيع ملاحظة أن البلطجي كان يستمد قوته من "النبوت" (عصا غليظة تستخدم في العراك الشعبي) ومن حاشيته التي يستقوي بها لفرض هيمنته وسلطته. وكان البلطجي لا يأبه لرأي العامة فيه طالما يمتلك القوة لقمعهم في حال ما فكروا في الثورة عليه يوما، وهو دائم التهديد لهم، وكذلك آخذ في التحذير من الفوضى التي قد تنتج جراء اختفائه من المشهد.

 

هذه العقلية التي يفكر بها البلطجي كانت تقوده إلى أحد المصيرين إما أن يظهر "فتوة" أو "بلطجي" آخر أقوى منه ويزيحه عبر قتله بنفس الأداة "النبوت" أو يخرج عليه الناس للتخلص منه وقتله في هبة مفاجئة لا تكون له في الحسبان. هذه قصة تقليدية جدا في التراث المصري يبدو أن الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي لم يقرأها من قبل (كأشياء كثيرة لا يعرف عنها في الحياة)، وبسبب هذا يخرج مهددا ومتوعدا بسيطرته على الجيش "النبوت الحالي" محذرا بالقضاء على أي ثورة قادمة باستخدام القوة، وقد وضع حياته أمام تنفيذ هذا الأمر.

 

تتيقن من حديث السيسي الأخير أننا أمام "بلطجي" تقليدي جدا اختطف الدولة تحت تهديد السلاح، ودائم التحذير من الأخطار المحدقة في حال غيابه عن المشهد، وكذلك دائم الربط بين الدولة وشخصه، غير آبه بمعاناة من يحكمهم أو مطالبهم. فلا يجوز لأحد أن يُطالب بتغيير "بلطجي" الحارة، لأنه بذلك يعبث بأمنها، وعلى الذين يطالبون السيسي بالتغيير "أن يقتلوه" أولا قبل هذا العبث -على حد قوله-.

 

فالأيمان المغلظة بعدم السماح بحدوث التغيير وتسميته "خطر على الأمن"، وربط وجوده الشخصي بأمن 100 مليون مصري، هي سمات متطابقة مع حديث بلطجية الحارات، وكذلك التحذير من "الثورة" والتلويح بقوة الجيش هو تلويح بـ"النبوت" في وجه شعب الحارة، وتصريح بأن مصير أي محاولة تغيير مقبلة، ستكون مجزرة مكررة.

 

"محدش يفكر يا جماعة يدخل معانا في الموضوع دا لأنني مش سياسي" هذا ما نطق به السيسي كبلطجي يختطف الحارة تحت تهديد نبوته، ولسان حاله: لا يمكن لأحد أن يفكر في منازعتنا على موضوع الحكم، لأن ما حدث مع حسني مبارك وإزالته بثورة شعبية، وما حدث مع محمد مرسي وإزالته بانقلاب عسكري، لن يتكرر معي، إلا بقتلي، فحياتي هي ثمن لهذا الكرسي.

 

حدد السيسي في خطابه الأخير للمصريين الطريقة التي يجب عليهم أن يسيروا عليها للخلاص من حكمه (من واقع خطابه)، وهي إما الدخول في حرب أهلية مع الجيش لإزاحته، أو قتله عبر بلطجي
حدد السيسي في خطابه الأخير للمصريين الطريقة التي يجب عليهم أن يسيروا عليها للخلاص من حكمه (من واقع خطابه)، وهي إما الدخول في حرب أهلية مع الجيش لإزاحته، أو قتله عبر بلطجي
 

ويبدو من حديث السيسي أنه وجد منازعا حقيقيا له بالفعل على الكرسي، فخرج بكلماته العنيفة هذه موجهة له خصوصا ولمن يناصره من الأعيان، موضحا بأنه لا يدير البلاد بمثل أحاديث غريمه (التي لاقت صدى لدى المعارضة)، فعسكري سابق خرج ببيان انتقد فيه أوضاع البلاد والحكم وأعلن ترشحه للحكم، وألقي القبض عليه ووضع في السجن الحربي بعد بيانه، كان كفيلا بإخراج مكنون السيسي للجميع.

 

كما كان كفيلا، أيضا، بلجوء السيسي إلى حاشيته لإظهار تأييد حكمه أمام الدعوات المتصاعده لرحيله، هذا التحشيد الذي يحاول السيسي صناعته ليس موجها فقط ضد "الإرهاب المحتمل" كما كان في السابق أو المعارضة التي يصمها بالإرهاب أيضا، وإنما موجه هذه المرة "لأي أشرار" بحسب حديثه، أي موجه لأي "فتوة" آخر يحاول ومنازعته على الحكم، حتى لو كان يملك جزءا من "النبوت".

 

في النهاية حدد السيسي في خطابه الأخير للمصريين الطريقة التي يجب عليهم أن يسيروا عليها للخلاص من حكمه (من واقع خطابه)، وهي إما الدخول في حرب أهلية مع الجيش لإزاحته، أو قتله عبر بلطجي آخر حتى تنتهي قصته، وبذلك يكون اختار مصيره الذي يفضله في دولة "النبوت". آن الآوان لترحلي يا دولة "النبابيت".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.