شعار قسم مدونات

عذرا.. أطفالكم ليسوا قطع شطرنج

blogs مذاكرة

"انظر إلى الكلية التي التحق بها فلان، انظر كيف تفوق عليك، لماذا لم تقم أنت بهذا الإنجاز؟"، من أبشع الأخطاء التي يرتكبها الكثيرون في حق أطفالهم هي مقارنتهم المستمرة بغيرهم من الأطفال؛ إنجازاتهم الصغيرة، نسبة تفوقهم الدراسي، تفكيرهم، حتى آمالهم وأحلامهم الصغيرة لا تُرحم من المقارنات الدائمة الظالمة والتي تترك فيهم ندوبا تطاردهم كالأشباح في كل ما يفعلونه خوفا من أن يكون أقل من المتوقع منهم، المتوقع الذي لم يُحدد بناء على قدراتهم ومعرفتهم، بل تم تحديده بناء على إنجازات وقدرات غيرهم، الأمر الذي يحقر من كل ما يفعلونه طالما أنه لم يرتق لمستوى المحيطين بهم.

تلك المقارنة المجحفة للأطفال والتي يلجأ إليها الكثير على اعتبار أن تلك طريقتهم المثلى في دفع أبنائهم إلى الأمام وتحفيزهم بتسليط الأضواء دائما على إنجازات أقرانهم من الأقارب والأصدقاء وحتى الشخصيات المشهورة، غاضين البصر عن أساس المقارنة وميول أبنائهم وأحلامهم الخاصة، فمثلا تجد هذا الذي يقارن ابنه بذاك الذي أصبح طبيبا رغم أن ابنه قد لا تكون أحلامه تتعلق بالطب، ولكن وجبت المقارنة لأننا بالطبع يجب أن نكون كلنا أطباء ومهندسين وما غير ذلك فهو عصيان بين.

وخلال تتبع الأهل لكل من حقق إنجازا ولو بسيطا حتى يتنصتوا على قصته ليأتوا مساء ويقصوها على أولادهم معاتبين أن لماذا لم تفعلوها أنتم حتى وإن كانت بعيدة كل البعد عن تفكير أولادهم، وسط كل تلك المقارنات التي ظاهرها تحفيز وباطنها ظلم بيّن يضيع الأطفال ويتشتتون بين هذا وتلك، فيفقدون شغفهم في ما يحبون وتبقى أحلامهم حبيسة دواخلهم، وفي أسلوب دفاعي بحت لا يقصد منه الأطفال أي أذى؛ يبدأون في الحط من شأن غيرهم وتضخيم عيوبهم وتقليص كل نجاح يقوم به غيرهم حتى يرضوا طبيعتهم بأنهم لم يستطيعوا تحقيق هذا الإنجاز، يبدأون بلوم أنفسهم على كل إنجاز يحققه آخرون شاعرين بأنه كان يخصهم، كان يجب أن يحققوه هم حتى وإن لم يكن في مجالهم أو لم يكن جزءا من أحلامهم، كان يجب أيضا أن يحظوا هم بتلك التهنئة على إنجازهم فذلك ما تعلموه وكبروا عليه.

أطفالكم ليسوا قطع شطرنج تحركونها كيفما شئتم؛ فاحترموا اختلافهم عنكم، واعلموا قدرات أولادكم جيدا، عظموا من إنجازاتهم الصغيرة، وقوّموا أخطاءهم مهما عظمت
أطفالكم ليسوا قطع شطرنج تحركونها كيفما شئتم؛ فاحترموا اختلافهم عنكم، واعلموا قدرات أولادكم جيدا، عظموا من إنجازاتهم الصغيرة، وقوّموا أخطاءهم مهما عظمت
 

تؤدي تلك المقارنات للعديد من المشاكل النفسية التي تبقى مع الطفل حتى يكبر ويورثها هو لأبنائه، مما يجعله دائم الظلم لنفسه، مقارنا نقاط ضعفه بنقاط قوة الآخرين مهملا قوته وقدراته، فيبقى دائم السخط على نفسه، مما يجعل الكثير من الأطفال يرى أن لا فائدة من بقائه في الدنيا ولا فائدة من محاولاته في أي شيء طالما أن والديه دائما يريان الآخرين أفضل منه، فلماذا يتعب ويحاول!

ونجد طفلا آخرا يصبح حاسدا منشغلا دائما بما في يد غيره وبما حققه غيره، يصب جم تركيزه على الآخرين وإنجازاتهم، يتفرغ لمراقبة هذا وتلك، والمشكلة هنا أن مراقبته لا تقف عند حد معين؛ فالمراقبة وتتبع الناس وأخبارهم لا تنتهي بل هي كالدائرة كلما ظننت أن تلك النهاية وجدت نفسك تبدأ من جديد، فلا تنتج ولا تتقدم خطوة واحدة، تظل مكانك تراقب العالم يدور وكل من خلفك يتقدمك، وقد يتطور الأمر إلى شعور بالغيرة والدونية مع تكرار المقارنات والضغط على الأطفال.

والأمر الذي يجهله الكثيرون هو أنهم وخلال مقارناتهم تلك التي يظنونها تحفز أطفالهم وتشجعهم على الإنتاج والتقدم يكونون بذلك يقتلون أحلامهم وطموحهم، يحقرون من قدراتهم ويهملون مواهبهم، حتى ينسى الطفل قدراته وأحلامه ويبدأ بمراقبة الآخرين، يهمل الطفل بدوره المجال الذي يحبه والهواية التي يستطيع تقديم الكثير فيها ويعلق طموحه الجديد على مجالات وقدرات من حوله ممن تمت مقارنته بهم من أجل فقط أن ينال رضا والديه، الأمر الذي بدوره يؤدي إلى شعور جديد بالفشل لأنه لم يخلق لهذا، ليس هذا مكانه الذي يريد، ولكنه المكان الذي فُرض عليه؛ لذا يعجز عن إبهار والديه فيظل تحت ذاك الضغط الذي فرضوه عليه.

ختاما، المقارنة الدائمة حتى وإن كانت في درجات الاختبارات المدرسية هي ظالمة بكل المقاييس، وضررها أكبر من نفعها لأنها لا تحمل نفعا أصلا، أطفالكم ليسوا قطع شطرنج تحركونها كيفما شئتم؛ فاحترموا اختلافهم عنكم، وأعلموا قدرات أولادكم جيدا، عظموا من إنجازاتهم الصغيرة، وقوّموا أخطاءهم مهما عظمت، أدعموا أحلامهم دائما فيما يحبون واتركوا لهم الاختيار دائما وأدركوا النعمة التي حباكم الله بها، واعلموا أن مجرد الإنجاب ليس بإنجاز فالحيوانات أيضا تستطيع أن تنجب، ولكن الإنجاز الحقيقي يكمن في إخراج أجيال سوية تستطيع الإبداع بكل ثقة لا يتخللها حسد ولا غيرة ولا حقد، الإنجاز الحقيقي يكمن في التربية. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.