شعار قسم مدونات

كيف شكل ما حدث بالتسعينات واقع مصر البئيس 2018؟

blogs مجلس الشعب 2007

تعد حقبة التسعينيات من وجهة نظر الكاتب هي العقد الأساسي الذي شكل كل الاشكاليات والمستعصيات التي تشكل واقع المصريين الحالي السياسي والاجتماعي بما فيه سلطة ونظام عبد الفتاح السيسي الحالية، فبالرغم من شيوع تسمية جيش كامب دافيد على الجيش المصري الحالي ولكن نظن أن التسمية الأدق للتعبير عن الواقع ستكون جيش حرب الخليج أو جيش عاصفة الصحراء.

 

فقيادة الجيش الحالي وعلى رأسهم عبد الفتاح السيسي نفسه وصدقي صبحي قد تشكل وعيهم بدورهم ودور الجيش في المعادلة السياسية المصرية والمعادلة الإقليمية والدولية من خلال مشاركة الجيش المصري في حرب الخليج ضد العراق، وكذلك فسياسة الانفتاح المتردد التي اتبعها السادات بعد حرب أكتوبر كانت قد وصلت إلى أزمة توشك على الانفجار مع نهاية الثمانينايت متزامنة مع أزمة أسعار النفط في الثمانينيات وهي أزمة كادت أن تؤدي إلى انهيار الاقتصاد المصري لولا تدخل أميركا لإسقاط الديون المصرية مقابل مشاركتها في حرب الخليج وهذا بدوره شكل نمط الاقتصاد المصري منذ التسعينيات إلى الآن واعتماده على مركز النظام العالمي الأميركي.

 

ولكن المشهد الأهم طوال عقد التسعينيات والذي شكل كافة الألغام التي تفجرت في أوجهنا منذ الثورة وحتى الآن كان حرب نظام مبارك ضد جماعات العنف الإسلامي أو الجهاديين وبالصدارة منها الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد، هذه المواجهة تحتاج تفصيلات عديدة وبإسهاب كبير لشرحها وكيف شكلت المجتمع والسياسة المصرية الحالية ولكن نوجز أنها شكلت ثلاث نقاط رئيسية:

 

صعد الإخوان دوليا ليشكلوا ما يعرف بخيار الإسلام الديموقراطي أو الإسلام المدني المندمج أو المتصالح مع النظام العالمي كنقيض للإسلام الجهادي الذي يمثل الإسلام المتمرد على النظام الدولي

* دور جهاز الأمن في المجتمع المصري والسياسة وما تتبعه ذلك من إشكاليات وتناقضات بين الجهاز الأمني -بشقية المخابرات العامة والداخلية-  والمؤسسة العسكرية.

 

* وثانيا طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة وتشكل ما يعرف بالفساد في الحالة المصرية، بمعنى أنه من أجل تلك المواجهة ضد جماعات العنف بالصعيد شرع نظام مبارك فيما سمي حينها بخطة تنمية الصعيد وكان الهدف منها ليس فكرة التنمية بقدر فكرة "شراء الولائات القبلية"، بمعنى أن الوظائف والمكاسب أو الريع من خطة تنمية الصعيد وزعت بحسب الوزن القبلي ولاكتساب العائلات الكبيرة لتكون هي الأداة في محاربة أبنائها المنتمين للجماعات الجهادية وأصبح هذا نمطا عاما في إدارة "الدولة" المصرية.

 

بمعنى أن هذا أيضا كان زمن بداية صعود رجال أعمال جمال مبارك، وهؤلاء لديهم تراكم مالي استطاعوا تكوينه بموقعهم داخل بنية النظام، فكان جزء مما يمكن أن يسمى ضريبة الولاء المقدمة من رجال أعمال جمال مبارك هو أن يكونوا هم من يشترون ولاء قيادات الشرطة وبعض قيادات الجيش، وتم هذا عبر طرق عدة مثل إنشاء شركات الأمن الخاصة أو دفع " عطايا الولاء" المباشرة لقيادات الداخلية، والمنطق هنا كان بسيطا: نظام مبارك لديه التزامات عطايا ومنح تجاه هذا الجيش الكبير الذي كونه في جهاز الأمن وهناك من يمكن أن يدفع عطايا الولاء بدلا منه أي رجال الأعمال في مقابل أن يكون جهاز الأمن في خدمة مصالحهم. حسنا، فليدفعوا فهم بذلك أزاحوا هذا العبء المالي عن نظام مبارك وسيبقى ولاؤهم بدورهم لمبارك عن طريق ولائهم لابنه! وهذا هو المنطق الذي شكل الدولة المصرية خلال العقدين الماضيين من أعلى مستوياتها إلى أصغر مستوى.

 

* والنقطة الثالثة أن هذا العقد كان عقد صعود جماعة الإخوان الرئيسي بشكل لم يقدروا عليه في العقدين السابقين في السبعينيات والثمانينيات؛ نتيجة لدورها الذي احتاجه النظام في مواجهة الجماعات الجهادية ،وليس فقط محليا وإنما بما أن نتيجة هزيمة الجماعات الجهادية محليا تحولوا لشبكات الجهاد العالمي وأبرز نماذجها القاعدة، فبالتبعية صعد الإخوان دوليا ليشكلوا ما يعرف بخيار الإسلام الديموقراطي أو الإسلام المدني المندمج أو المتصالح مع النظام العالمي كنقيض للإسلام الجهادي الذي يمثل الإسلام المتمرد على النظام الدولي. وهذا تحديدا ما يعنينا في النقاش هنا.

 

في الواقع احتاج النظام الإخوان في معادلة محاربته لجماعات العنف في نقطتين تحديدا: التدليل على صلاحية وفعالية نموذج العمل الإسلامي السلمي في مقابل فشل وعجز نموذج رفع السلاح في وجه الدولة ومن أجل ذلك كانت تلك الفترة التي سمح بها النظام للإخوان للوجود الكثيف في النقابات المهنية -بالرغم من أن هذا لم يكن وجودا سلسا ولا سهلا فهي أيضا -تلك الفترة كذلك- التي وضعت بها نقابة المهندسين تحت الحراسة القضائية ولعل أصلا سبب العديد من إخفاقات الإخوان في تجربة النقابات أنهم صدقوا تماما أن احتياج النظام لهم في تلك المعادلة سيجعلهم لن يواجهوا مشكلات في وجودهم على رأس النقابات- وهي أيضا نفس الفترة التي سمح فيها النظام بوجود ملحوظ للإخوان في البرلمان وإن كان بدوره هذا لم يكن سلسا وشهد حل مبارك لبرلمان 1990.

 

وكان السبب الرئيسي لهذا الحل هو خروج نسبة المعارضة بالبرلمان عن التي قررها مبارك سلفا، وكذلك في سبيل ذلك كانت تلك هي الفترة التي شهدت سماح النظام بحرية نسبية معقولة للإخوان ومعهم السلفيين في الوجود على منابر المساجد، وأن يكون لهم مساجدهم الخاصة بل يمكن أن نقول إن السلفيين استفادوا من هذا أكثر من الإخوان نظرا لأنهم يتشاركون في المقولات العقائدية التأسيسية مع الجماعات الجهادية بوصفها جماعات سلفية جهادية، فلهذا النظام كان يحتاجهم بشكل أكبر، وكذلك السماح لمعدل كبير بتكوين الجمعيات الأهلية والنشاط بالعمل الخيري والإغاثي والمجتمعي، وكانت تلك هي ذروة هذا النشاط للإخوان  سواء في الإغاثة العالمية من البوسنة وسراييفو إلى فلسطين تزامنا مع الانتفاضتين الأولى والثانية أو محليا مثل كونهم كان لهم الدور الأكبر والأبرز في أعمال الإغاثة لمتضرري زلزال 1992.

 

المراجعات التي أجرتها الجماعة الإسلامية لم تكن لتتم لولا توسط جماعة الإخوان بها بالرغم من أنه كان ظاهريا الذي أشرف على تلك المراجعات الأزهر
المراجعات التي أجرتها الجماعة الإسلامية لم تكن لتتم لولا توسط جماعة الإخوان بها بالرغم من أنه كان ظاهريا الذي أشرف على تلك المراجعات الأزهر
 

وكما قلنا أعلاه كانت تلك الفترة التي كان يعمل نظام مبارك بمنطق من يريد أن يزيح عنه أي عبء أو التزام تجاه الشرائح المجتمعية وشرائح النظام، فليفعل ذلك طالما يستطيع أن يضمن السيطرة عليهم، فالإخوان يريدون النشاط بالعمل الاجتماعي والخيري وهذا سيزيح العديد من البنود التي يجب أن تلتزم بها الدولة تجاه المجتمع، فليفعلوا ذلك طالما أنه ضمن إطار معادلة يسيطر عليها نظام مبارك!

 

والنقطة الثانية كانت أن المراجعات التي أجرتها الجماعة الإسلامية لم تكن لتتم لولا توسط جماعة الإخوان بها بالرغم من أنه كان ظاهريا الذي أشرف على تلك المراجعات الأزهر، لكن الأزهر ليس عنده القدرات الفكرية ولا التنظيمية ليشرف على مثل تلك المراجعات في السجون ولم تكن تلك المراجعات لتتم إلا بوساطة الشق الآخر من الإسلام الحركي أي الإسلام السياسي أو الإخوان!

 

ولعل تلك السياسة ذات الشقين كانت ناجعة إلى حد كبير فحتى قبل انتهاء عقد العنف رسميا عام 98 حدث أن تراجع الكثير من المنضمين للجماعة الإسلامية عن فكرها، وتحولوا إما للسلفية المدرسية -وخاصة سلفية شبرا- أو للإخوان المسلمين أو في دوائرهم حتى لو لم ينضموا للإخوان بشكل رسمي.

 

حسنا.. إذن ماذا كانت المشكلة في انتهاج جماعة الإخوان تلك السياسة وما علاقة ذلك بالمشهد الراهن؟

المشكلة من وجهة نظرنا كانت في المنطلق الذي انطلق منه الإخوان في تلك السياسة، والعقل السياسي الذي حكمها في هذا العمل وهو العقل المتدرج الذي ينظر لعملية التغيير أنها عملية تدريجية تمر من التكوين إلى التمهيد ثم التمكين، ففضلا عن أنه -واقعيا- مثل هذا النهج يعبر عن دائرة فراغية تأكل بعضها البعض ولا تؤدي إلى نتيجة، فعلى امتداد تسعين عاما من عمر الإخوان في كل المراحل التي انطلقوا خلالها من نقطة تكوين أملا في الوصول إلى تمكين لم يحدث هذا ببساطة بل ولولا الثورة التي هي مناقضة لصلب منهجهم لم يكن لهم أبدا أن يصلوا إلى رأس السلطة في أي وقت! ولكن النقطة الأهم عدم التفكير بمنطق الإصلاح في كل فرصة متاحة بما هو متصل بالمصلحة العامة عوضا عن السعي لهدف ضبابي اسمه التمكين.

 

لو شرحنا بتفصيل أكبر فقد كان سعي الإخوان فيما سموه التكوين؛ هو ببساطة اختراق مؤسسات الدولة ثم أن يصبحوا جزءا من معادلة النظام ثم يصبحون هم النظام!

 

الإخوان كانوا يسعون لأن يكونوا جزءا من معادلة النظام وأن يكون استمرار النظام مرتهنا باستمرار الجماعة! وهي بالمناسبة فكرة قديمة طرحها النظام بنفسه عقب هزيمة 67

وهذا ليس تحليلا أو افتراضا وإنما هذا كان المستنتج والمستبطن مما عرف بوثيقة التمكين التي كانت الأساس الذي من أجله أحدث نظام مبارك قضية سلسلبيل في عام 95 وتم اعتقال المرحوم مهدي عاكف والمهندس خيرت الشاطر على إثر تلك القضية، ووثيقة التمكين تلك هي وثيقة كتبها خيرت الشاطر بنفسه مع فريق عمل كان معه وعثر عليها الأمن في مقر شركة سلسبيل التي كان يديرها خيرت الشاطر؛ بل والأرجح أن الأمن علم بتلك الوثيقة قبل مداهمة مقر الشركة وهي التي من أجلها أصلا تم إغلاق تلك الشركة، وإن كان الإخوان انكروا صحة تلك الوثيقة فقد تسنى لنا التأكد من صحتها بعد تلك المدة؛ بل وقد قابلنا سابقا أحد القيادات الوسيطة داخل الإخوان التي كانت مهمتها الترويج وشرح فلسفة العمل بخطة التمكين تلك لقواعد وكوادر العمل الإخواني، وهو بدوره شرح لنا إبعاد تلك الخطة وهي ما نكتب على أساسه تلك التدوينة.

 

ولكن لنكتفي الآن بما ورد من نص تلك الوثيقة حيث تقول: إن سياسة عمل الإخوان مع السلطة تكون كالأتي:

يتم التعامل مع السلطة بالاحتواء بتوظيف أجهزتها فى تحقيق رسالتها من خلال اتخاذ القرار أو تغيير نظمها، والأسلوب الثانى هو التعايش بمعنى العمل على إيجاد صورة من صور التعايش مع النظام بالتأثير على الأوضاع بما يجعله حريصا على استمرار وجود الجماعة، وثالث أسلوب تطرحه الوثيقة هو التحييد، أي عن طريق إشعار السلطة أن الإخوان ليسوا خطرا عليها وإنهم لا يسعون للحكم، وآخر أسلوب من أساليب الإخوان فى مواجهة الدولة طبقا لوثيقتهم هو تقليل فاعلية الدولة فى التأثير على خطة التمكين.

 

فالمستنبط من تلك الفقرة وبقية نص الوثيقة -وهي نشرت بالفعل- هو ما قلناه أي أن الإخوان كانوا يسعون لأن يكونوا جزءا من معادلة النظام وأن يكون استمرار النظام مرتهنا باستمرار الجماعة! وهي بالمناسبة فكرة قديمة طرحها النظام بنفسه عقب هزيمة 67 كما عبر عبد الناصر بنفسه -كما هو مسجل في محاضر اجتماعات الاتحاد الاشتراكي عام 1968- أن النظام لكي يستمر ولا تتكرر مثل تلك الهزيمة الكارثية يحتاج أن يتحول من النظام المغلق إلى النظام المفتوح وأن يكون بداخله عدة أنوية حتى يمارس ما يصفه بالديموقراطية داخل النظام!

 

وحتى ضرب عبد الناصر مثالا بأنه يمكن أن يشكل خالد محيي الدين حزبا يساريا، ويشكل زكريا محيي الدين حزبا وسطا ويشكل عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين حزبا يمينيا، وعبر عبد الناصر بقوله "عبد اللطيف وكمال مننا وكانوا مشاركين في السلطة حتى عام 64!" وفيما ينقل عنه سكرتيره سامي شرف، ولكن ليس مثبتا في محضر اجتماع الاتحاد الاشتراكي أنه كان يرى الخطوة التالية هي السماح للوفد والإخوان بالرجوع للسياسة وتشكيل أحزاب يمينية ولكن داخل بنية النظام ! وهو ما كان بيان مارس بداية تطبيق هذا المسار، وحاول السادات إعادة تطبيقه مجددا بعد حرب أكتوبر ولكن للأسف انتهى بمقتله هو نفسه أو هكذا رأى مبارك فانتهج سياسة بديلة أكثر تعقيدا وأكثر بساطة بنفس الوقت هي ما شرحناها بإيجاز أعلاه.

 

على كل؛ فكما قلنا كانت التسعينيات أيضا بداية صعود جمال مبارك كوريث لأبيه فكانت نقطة الارتكاز الأساسية بمشروع التوريث أن جمال هو الذي سينقل الحكم بمصر من حكم عسكري إلى حكم مدني -أمنى وسيؤسس لديموقراطية سلطوية- وبالمناسبة فبشار الأسد أيضا في وراثته لأبيه حاول أن يؤسس مثلها في الخمس سنوات الأولى من حكمه-.

 

فلهذا كان قبول الإخوان بالتوظيف أو الاستخدام في معركة النظام ضد جماعات العنف هو خطوة على طريق التمكين وفقا لهذا النحو، وكانوا يرون أن نهاية المطاف ستكون مع وراثة جمال مبارك لأبيه وكما سمعت مباشرة من أحد قيادتهم؛ كان تفكيرهم أن توريث جمال مبارك السلطة لن يمر بسهولة، وكل تلك الحركة الاحتجاجية التي امتدت في عقد الألفية ستؤدي إلى حالة احتجاج ضخم عند توريث جمال السلطة حينها سيشارك فيها الإخوان حتى يستطيعوا التفاوض على مكاسبهم في عصر سلطة جمال مبارك بأن يكونوا جزءا من النظام مثلما استطاع نظراؤهم؛ مثل العدالة والتنمية في المغرب أو حمس في الجزائر، خاصة نموذج المغرب هو كان النموذج الذي يريدون تكراره بالفعل.

 

الجهاديون في صراعهم المسلح مع الدولة كانوا يخوضون هذا الصراع بسذاجة شديدة ويفعلون أخطاء كارثية بعضها أشد مما فعله بعض من انتهجوا العنف من الإخوان في أزمتهم الحالية

لهذا كانوا شديدي الحذر والحيطة تجاه مظاهرات 25 يناير وكان الضغط للمشاركة بالمظاهرات يأتي من قواعد الجماعة وليس من قمتها، ولهذا أيضا عندما جلسوا مع عمر سليمان بذروة الثورة قبلوا ووافقوا بما عرضه عليهم -وتلك معلومة يقينة- لكن ضغط الشارع جعل كل ما يمكن الوصول إليه مع مبارك قد تم تجاوزه، ثم بعد صعودهم إلى الرئاسة سمعت مجددا من أحد الذين كانوا مشاركين في الفريق الرئاسي نصا مفاده؛ أن سعيهم الحالي أن يكونوا داخل معادلة النظام محل الحزب الوطني، ثم إذا تحقق لهم ذلك يصبحون هم النظام نفسه! ولكن لم يتحقق لهم ذلك ووصلنا للحظة الراهنة التي نحن بها الآن، فما كانت المشكلة في كل ذلك؟

 

المشكلة لم تكن السعي إلى أن يكون الإخوان جزءا من معادلة النظام وليس مشكلة طريق إصلاحي أو ثوري، وليس كما عبر لي أحد قيادات الجماعة الإسلامية -منفي بدوره إلى تركيا- أن الإخوان فعلوا معهم نفس الذي فعله حزب النور والسلفيين مع الإخوان! كل هذا ليس المشكلة، فبحسابات السياسة الواقعية كان فعل الإخوان في حقبة العنف هو أفضل ما يمكن فعله من وجهة نظري.

 

في النهاية؛ الجهاديون في صراعهم المسلح مع الدولة كانوا يخوضون هذا الصراع بسذاجة شديدة ويفعلون أخطاء كارثية بعضها أشد مما فعله بعض من انتهجوا العنف من الإخوان في أزمتهم الحالية وحسابات السياسة تقول إنهم في كل الأحوال سيهزمون بالرغم من شراسة مواجهتهم مع النظام، وبالتالي ليس منطقيا لأي طرف أن يشاركهم فيما يمكن أن نسميه انتحارا جماعيا يمارسونه! وهذا ظرف مختلف عن ظرف ثلاثين يونيو بالرغم من أن كل الأطراف السياسية فكرت بالفعل بنفس ذلك المنطق وهو أن الإخوان انتهوا بالفعل عاجلا أو آجلا فليس من العقل أن نشارك معهم انتحارهم في رابعة! اختلاف الظرف أن مبارك كان يواجه إشكالية الجماعات الجهادية بينما السيسي كان يواجه إشكالية ثورة 25 يناير وكل من شاركوا بها، فكان نوعا من "البلاهة" الظن أنه سيتوقف عند الإخوان ولن يكمل لمن يليهم، كما هو يهدد الآن بمجزرة مثل مجزرة رابعة مجددا تجاه بقية القوى السياسية!

 

فأقول المشكلة الرئيسية كانت في كيف يدير الاخوان تلك السياسة وماذا كانت غايتها ؟ عندما كانت غايتها ما يصفوه بمشروع التمكين هو الذي ادى لخيط بدأوه منذ التسعينات وانتهى بماساة مجزرتي رابعة والنهضة. البديل في التفكير كما أعتقد كان يمكن أن يكون كالاتي: النظام يحتاجنا في معركته ضد الجماعات الجهادية، حسنا؛ كيف يمكننا أن نجني ونحرز نقاطا للمصلحة العامة التي تمثل المصريين جميعا من هذا التعاون؟

 

كانت هناك نقاط عديدة لم تفتح إلا بعد الثورة كان يمكن إحرازها حينها وقت احتياج النظام للإسلاميين والإخوان خصيصا، كانت ستجعلنا حاليا بمشهد مختلف. كان يمكن المناورة في مساحة العمل الاجتماعي التي أعطاها النظام للإخوان؛ لإيجاد عمل مدني حقيقي في مصر وإزاحة عواقب كثيرة قانونية وإجرائية تجاه إيجاد عمل مدني ومجتمعي في مصر لم يتم السعي إليها إلا عقب ثورة 25 يناير عوضا أن يكون التفكير الإخواني كيف يستفيدون من تلك المساحة في زيادة تراكم الرصيد الشعبي وعمل قواعد مجتمعية في الفئات الفقيرة وهو الذي تبين للإخوان أن كل عملهم ذلك كان ضبابا وتلك الفئات تحديدا هي التي استخدمها نظام السيسي ضد الإخوان بعد 30 يونيو!

 

كان يمكن المناورة في مساحة العمل النقابي التي أعطاها النظام للإخوان في نقابة الأطباء -مثلا- في السعي لقانون تأمين صحي شامل لكل المصريين تبعا لشهادة الميلاد وليس التسجيل في سجلات العمل الرسمية، وهو الذي لم يناقش كما لم تناقش زيادة ميزانية قطاع الصحة بالموازنة العامة إلا بعد ثورة يناير كذلك، وتلك كانت ستكون خطوة أساسية ضد تشكل كارثة اقتصادية ومجتمعية بمصر حاليا اسمها الاقتصاد غير الرسمي كان تشكله أيضا بالتسعينيات تبعا لمنطق تعامل نظام مبارك الذي شرحناه أعلاه، وحينها مثل هذا فعلا وغيره في المساحة التي يمكن تحقيقها من العمل النقابي هي التي كانت ستحقق للإخوان قواعد مجتمعية في الشرائح الشعبية والفقيرة!

 

في الوقت الذي كانت هناك فرصة لعمل جماعي مجددا -بعد موت السياسة منذ عام 2014- لإيجاد موقف جامع تتم فيه مقاطعة الانتخابات؛ نجد أن السياسيين المصريين انقسموا إلى معسكرين حرصا على النقاء الثوري!
في الوقت الذي كانت هناك فرصة لعمل جماعي مجددا -بعد موت السياسة منذ عام 2014- لإيجاد موقف جامع تتم فيه مقاطعة الانتخابات؛ نجد أن السياسيين المصريين انقسموا إلى معسكرين حرصا على النقاء الثوري!
 

كذلك لو كانت حتى فلسفة الإخوان في تعاطيهم مع احتياج النظام لهم في عنف التسعينيات هو إذاً المسار العنيف سيضر العمل الإسلامي وما يعرف بالصحوة الإسلامية بأكملها، كان سينبني عليه سياسة مختلفة غير تلك السياسة التي انتهجها الإخوان والتي بالنهاية لا يمكن وصفها الا بالانتهازية.

 

سياسة يكون سؤالها كيف يمكن استغلال تلك الأزمة في ترميم الاجتماع الديني للمصريين وترميم دينهم الذي خضع لتشوهات عقائدية وسلوكية وثقافية هائلة تجعل بينه وبين الإسلام كما جاء به النبي محمد مسافة شاسعة، ولكن عوضا عن ذلك فهم كرسوا من خلال سياستهم تلك الصدام والهوة بينهم وبين المؤسسة الدينية الرسمية الأزهرية، في حين أن الدين الذي يقدمه الإخوان لم يفرق كثيرا عن الذي يقدمه الأزهر!

 

وعلى كل فتلك هي أزمة العقل السياسي الجمعي عند المصريين وتلك العقلية بحذافيرها ستجدها عند اليسار والليبراليين وأي تيار سياسي مصري، تلك العقلية في النهاية هي التي أنتجت هذا المشهد الهزلي والكوميدي الذي يحدث بمصر حاليا مع الانتخابات أو الاستفتاء على عبد الفتاح السيسي! في الوقت الذي كانت هناك فرصة لعمل جماعي مجددا بعد موت السياسة منذ عام 2014 لإيجاد موقف جامع تتم فيه مقاطعة الانتخابات وسياسة جماعية تجاه العملية الانتخابية بل وقد تدعمه بعض شرائح النظام الحاكم، نجد أن السياسيين المصريين أو من تبقى منهم انقسموا إلى معسكرين حرصا على النقاء الثوري! وتنقيته من شبهة وجود حتى إسلاميين سابقين!

 

على كل فتلك المسألة لم تكن بريئة وكان بها تدخلات من أركان نظام السيسي لدفع التيارات السياسية لهذا الموقف أو ذاك! ولكن تبقى الإشكالية أن لا أحد يفكر بمنطق المصلحة العامة ووضع مصلحته على مقياسها، وطالما هذا ليس موجودا فسنبقى في تلك الأزمة الهزلية من التسعينيات حتى الآن!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.