شعار قسم مدونات

الترهل الوظيفي

blogs مكتب

أأنا المجنون أم هو؟ وقف يحاججني وأحاججه؛ ولشدة تعجبه من موقفي كان يرمش ويسحب نفسا وهو يحرك رأسه غير مصدق ما تسمعه أذناه. هو رجل صادق، وأنا لست بالكاذب. ولشدة تعجبي من موقفه كنت أدير رأس إصبعي نصف دائرة داخل صوان إذني ثم، أُطرق، ثم أحاول أن أفند كلامه. لكن لا فائدة.

 

الموضوع: هو يطالب بمرتبه، بالمال الذي يقوت أسرته، لكنني أقول له: أنت مطرود. فإن كان القارئ قد حقد علَي لهذا الموقف، فأنا ألتمس منحي فرصة للدفاع عن نفسي. بالمناسبة لقد تطور الأمر بيننا -بين هذين المجنونين- إلى مراسلات غاضبة. ووصل بي الأمر إلى أن كتبت له: انظر يا هذا! أنت تستدرجني لكي أكتب أشياء تستطيع بها أن تقف في المحكمة. أنت ماضٍ في إنشاء ملف لترفع دعوى قضائية، فخذ إجابات صريحة على كل أسئلتك -وكنت صريحا-. سأقص عليك ما حدث لاحقا، لكن بعد أن أدافع عن نفسي.

 

نشأتُ في قوم من الصنايعية، ولنا بالبلد مشاغل خياطة، وخراطة، ومطابع. وعملت في زمني خطاطا ومعلما. ثم انحرفت بالتدريج عن سيرة أهلي فعملت صحفيا، ولعلك تعلم أن الصحافة والإعلام كله "بيع حكي". غير أن النشأة الأولى تترك في النفس أثرا عميقا -لا أفهم الوظيفة-. كان خال أمي أول من أدخل الكهرباء إلى مدينة نابلس. كان يولِّد الكهرباء ويبيعها للناس -وكان يربح- ثم وضعت البلدية يدها وسحبت الامتياز.

 

كان كهنة المعبد ثم الكنيسة، وفقهاء الدين في شتى الديانات يتقاضون المال من الدولة لقاء أشغال كتابية أو مهام قيادية، ثم انتفت الحاجة إلى أشغالهم لكنهم ظلوا يقبضون المرتبات

أخذ رئيس البلدية يوظف جماعته. وتغير رئيس البلدية وجاء آخر له جماعة أخرى فأخذ يوظفهم، وما مضت سنوات قلائل حتى كان مبنى البلدية خلية نحل.. موظفون بالمئات، ولا عمل حقيقا لمعظمهم. فمن أين يتقاضون مرتباتهم؟ من فواتير الكهرباء أيها السادة. وأصبح سعر الكهرباء في بلدنا أعلى من سعرها في لندن ونيويورك.

 

أعود إلى صاحبي: لقد قرر أن يتوقف عن الإنتاج في تلك المؤسسة التي كنت فيها مديرا صغيرا.. ولقد يعلم القارئ أن المدير الصغير يشبه رقائق المطاط بين حدائد محرك السيارة، فهو يمتص الضغط من فوق ومن تحت. أرسلت إلى صاحبي الإنذار الأول والثاني والثالث. لكنه كان يقهقه مع كل إنذار، والرجل صادق وسليم النية، ولا يستند إلى "واسطة"، هو فقط يقهقه. والتقينا مرارا ولم أفهمه، ولم يفهمني.

 

وكي أفهمه أريد الدخول إلى المسألة من بابين: الباب الأول "اليونيفيرسال بيسك إنكوم"، أي "الدخل الثابت العمومي"، والباب الثاني الدولة الإسلامية. وأبدأ بالباب الثاني.

 

عندما فتح العرب البلاد ونشروا الإسلام دخلوا في نمط اقتصادي لم تعهده جزيرة العرب. كان الشغل في الأرض من نصيب الفلاحين في سوريا وفارس والعراق، وكان الشغل داخل بيوت الأثرياء من نصيب الإماء، وكان شغل الإدارة والقتال من نصيب العرب، وأصبح العرب موظفين لهم "أعطيات" محددة بشكل قانوني مبني على الأنساب وعلى المراتب، لكنهم كانوا يشتغلون شغلهم.

وأرسى الفاتحون المسلمون نظاما ضريبيا معقولا بين خراج وجزية وعشور. وعاش المجتمع الإسلامي عصر نهضة قوية أطاحت بإمبراطوريتين. كان توزيع المهام في المجتمع ملائما، فقد وضع الإسلام قوانين متقدمة عما سبقه: فالأمَة التي تلد ولدا لا تباع ولا يباع ولدها، وترتقي إلى مرتبة "أم ولد". والعبد يمكن له أن يحرر نفسه بشروط أسهل من شروط الدول البائدة. والضرائب مدروسة، وللفلاحين نظام تضبطه الدولة؛ فمنهم رؤساء القرى "الدهاقين" ومنهم العامل الأجير. ولأن الدولة الإسلامية كانت تتوسط بين أوروبا والشرق الأقصى وروسيا فقد أصبحت محورا تجاريا مهما.

 

ودخل في الوظائف الفرس والترك، وبدأ بالتدريج الترهل الوظيفي. وزاد الضغط على الفلاح والعامل، فقامت ثورات عمالية وفلاحية في جنوب العراق وفي جبال فارس وفي مصر.

 

الآلات والربوتات والحواسيب أخذت الشغل، فأصبحت البطالة كبيرة ودائمة. فليقعد بضعة ملايين في بيوتهم وليتقاضوا مرتبات الحد الأدنى
الآلات والربوتات والحواسيب أخذت الشغل، فأصبحت البطالة كبيرة ودائمة. فليقعد بضعة ملايين في بيوتهم وليتقاضوا مرتبات الحد الأدنى
 

في المجتمعات القديمة توجد فكرة محفورة في عقول الموظفين وأبنائهم وأحفادهم إلى عاشر حفيد، وهي أن لأبناء هذه الطبقة الحق في "معاش يرتب ترتيبا، فهو مرتب". ونشأت المؤسسات الحديثة في القرن العشرين، وورث الموظفون فكرة المعاش المرتب. هي فكرة تاريخية نشأت في العقول. كان كهنة المعبد ثم الكنيسة، وفقهاء الدين في شتى الديانات يتقاضون المال من الدولة لقاء أشغال كتابية أو مهام قيادية، ثم انتفت الحاجة إلى أشغالهم لكنهم ظلوا يقبضون المرتبات.

 

والباب الثاني الذي سألج منه لفهم صاحبي المجنون، أو لفهم جنوني أنا، هو باب "اليونيفيرسال بيسك إنكوم "، أي "الدخل الثابت العمومي". وملخصه أن الآلات والربوتات والحواسيب أخذت الشغل، فأصبحت البطالة كبيرة ودائمة. فليقعد بضعة ملايين في بيوتهم وليتقاضوا مرتبات الحد الأدنى. الغرب سائر في هذا الطريق بتسارع، والبادئة بمشروع حقيقي كانت فنلندا.

صاحبي محقٌّ في واحدة: من حق كل إنسان أن يعيش، حتى لو أقعد أو جن أو كان كسولا يرفض كل عمل. لا يجوز للدولة أن تسمح بأن يجوع فيها إنسان بصرف النظر عن كل ظرف وسبب. وتكملة القصة مع صاحبي أنه سجل اسمه في صندوق البطالة في بلد لديه مثل هذا الصندوق، وأراحني. لم يذهب إلى محكمة، ولا أنا ذهبت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.