شعار قسم مدونات

نعم أرفض التدريس.. ولهذا غادرت أروقة الجامعة

blogs - studying

يتساءلون ليل نهار.. لا يتركون لي مجالا للتوضيح ولم أترك لنفسي مجالا بعدُ للتفكير "أستاذة جامعية تتخلى عن التدريس".. أتعتقدون الأمر سهلا؟ أبدا لم يكن كذلك.. فقراري جاء بعد تفكير ثم عجز عن التغيير ثم إعلان للهزيمة أمام تفشي ظواهر اجتماعية أخلاقية باتت حاجزا أمام تقديم الرسالة التعليمية العلمية النبيلة الأصيلة السامية والرفيعة.. نعم تلك رسالة فاضلة أثيلة شريفة لا يقصدها إلا أخيار المجتمع!
  
"من تجربتي أكتب.. وعن جرح ينزف داخل قلبي أحدثكم.. بل عن ألم الأمة أتحدث، عن وطن بل عن أوطان.. عن شباب وأحلام.. عن أيام وليالي بيضاء!.. عن تضحيات واجتهادات.. عن مثقفين وجامعيين.. عن رسول أمين ورسالة صادقة.. فالعلم نور يا سادتي الكرام و"العلم يرفع بيتا لا عماد له.. والجهل يهدم بيت العز والشرف".
  

بات حالنا كحال الطبيب الفاشل؛ يأتيه المريض فيصف له دواء من نوع المضادات الحيوية.. يشفيه في الحين، ولكن يعاوده المرض ألف مرة حتى يصبح الدواء ماء والداء موتا

قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النمل في جحرها وحتى الحوت في جوف البحر ليصلون على معلم الناس الخير".. و" ﻗُﻢ ﻟِﻠﻤُﻌَﻠِّﻢِ ﻭَﻓِّﻪِ ﺍﻟﺘَﺒﺠﻴﻼ.. ﻛﺎﺩَ ﺍﻟﻤُﻌَﻠِّﻢُ ﺃَﻥ ﻳَﻜﻮﻥَ ﺭَﺳﻮﻻ".. ولكن أين نحن من كل هذه الحكم المأثورة والمواعظ في احترام القائد والمعلم وتبجيل رسالته النبيلة في نبذ الجهل وتداعياته المتغلغلة في الظلمات.. فتلك أكبر الآفات الموجودة في المجتمع وأخطرها على الإطلاق.. وذلك سبب رئيس من أسباب تخلف الأمم والأفراد..
  
تتساءلون عن أسباب ارتفاع أعداد ونسب الانتحار في صفوف شباب تونس وغيرها من دولنا العربية.. ثم تستغربون لشبابنا المقدم على "الحرقة" ضمن مايسمى بتفاقم ظاهرة الهجرة السريّة في قوارب الموت يبتلعهم البحر الأبيض المتوسط -لعل الأجدر بنا أن نلقبه بالبحر الأسود-.. الذي يبتلع الشباب والأحلام والآمال دون أن يترك شيئا.. بحر تاريخه أسود لشباب شمال إفريقيا، على الأقل بين ليبيا وتونس ودول أخرى من القارة السمراء تحملهم قوارب بالية. وبمجرد ذكر "البحر الأبيض المتوسط" تعبر بنا اللحظات إلى أرقام أكاد أجزم أنها صادمة ومهينة ومخجلة في حق شعوب أرادت من العلم نورا لشبابها.. فإذ بهم في ظلمات الجهل يتخبطون، ومن يدري؟؟ من يهتم؟ من يسأل؟ من يتساءل؟ ومن يبحث؟
   
بلغة الأرقام أحدثكم.. لا أستعرض خبراتي في بحث "غوغل" وغيره من محركات البحث المتطورة! لكن ذكر بعض الأرقام يكون بمثابة الفأس القاطع والمنبه العاجل وناقوس الخطر الذي نقرع فجأة فيصحو من استطاع لذلك سبيلا: سبق وأُعلن العام 2016 أكثر الأعوام فتكا باللاجئين الذين يحاولون عبور المتوسط إلى أوروبا.. أكثر من 3 آلاف شخص بينهم نساء وأطفال ابتعلهم البحر المتوسط في العام 2016، وأكثر من مليون شخص اجتازوا المياه القاتلة ليصلوا اليابسة من "قارة الأحلام " المزعومة وفق ما أعلنته الأمم المتحدة. وترتفع الأرقام في 2017 ليُعلن عن معدل يومي للهجرة السرية بنحو 14 شخصا يحاولون عبور المتوسط! وتلك عينة لا غير!

 

فما أكثر همومنا ومصائبنا وأرقامنا المفجعة المحزنة.. في الجانب المقابل، ماذا لو تحدثنا عن العقول والبحوث والإحصائيات والاستنتاجات والمتابعات والقرارات!!! أعلم أنكم ربما لا تستصيغون مثلي بعض "القرارات"، فلطالما كانت مصدر قلق لا ارتياح.. فنحن نشعر حتما بالاشمئزاز لمثل هذه العبارات: "ضرورة تعزيز اليقظة"، "إنشاء لجان متابعة"، "مقاضاة العصابات الإجرامية وعصابات الاتجار بالبشر" و.. و.إلخ
     
بات حالنا كحال الطبيب الفاشل؛ يأتيه المريض فيصف له دواء من نوع المضادات الحيوية.. يشفيه في الحين، ولكن يعاوده المرض ألف مرة حتى يصبح الدواء ماء والداء موتا! فالطبيب الجيد يعالج السبب! يذكرنا بذلك ابن سينا قائلا: "وبالتالي، في الطب يجب علينا أن نعرف أسباب المرض والصحة"، كما يلخص الفكرة الدكتور إبراهيم ناجي. 
   
وقد عشت أؤمن أن المريض «ليس» حالة كما يقول الأطباء كثيرا وإنما هو «إنسان»، وإن العلاج لا يكون في تذكرة الدواء، وإنما في فهم ذلك الإنسان، في مقاسمته آلامه، في الإصغاء إلى متاعبه، في بذل العطف الصادق له، في منحه الحنان الذي فقده في العالم الواسع، وضاقت الدنيا به على رحبها".. فليكن ذلك درسا لأطباء "السياسة" في وطني وفي كل الأوطان التي لا تتعظ! "وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ".. 

 

اعتصامات المعلمين في تونس 2016 (رويترز)
اعتصامات المعلمين في تونس 2016 (رويترز)

 

تعلمنا منذ الصغر أن جميع الشرائع السماوية دعت إلى محاربة الجهل ونبذه، والتشجيع على المعرفة وطلب العلم ومعرفة الحقيقة.. إلا أن "السياسة" في وطني وفي أوطان عربية أخرى ترفض الإقرار بذلك.. تبحث في كل الاتجاهات ولا تبحث في نبذ التخلف والجهل. 

  
"إذا كنت تعتقد أن التعليم ثمنه باهض.. جرب الجهل". 

"If you think education is expensive.. — try ignorance"


مثل إنجليزي علّني أعلنه حكمة اليوم لسياسيين وباحثين وناشطين ومجتمع بأسره حاله كحال المتخبط في قاع البئر وحبل النجاة من خلفه!!! تبحثون في الداء وتستعجلون وصف الدواء وما أنتم بمصيبين..

  

داء الوطن في تفشي الجهل ودواؤه في رفعة صاحب الرسالة! "فما قدروا حق المعلم قدره.. ومن حقه، كالوالدين، يعظم".. ألا تحسنون القراءة والكتابة! إذا فلتتقنوا فن الإصغاء، وقد حدثكم جبران خليل جبران قائلا: "تقوم الأوطان على كاهل ثلاثة: فلاّح يغذيه، جندي يحميه ومعلم يربيه".. وما أشرقت في الكون أي حضارة إلا وكانت من ضياء معلم..
    
ولكن أين نحن من هذا! لم يعد للمعلم قدر، ولم تعد الحياة علما وعملا.. ولم يعد العلم فريضة كما كان منذ الأزل!!! اختلفت القيم وتباينت المبادئ وسُنت قوانين جديدة جعلت الجاهل قائما على أمور العامة.. ثم حطت من كرامة المعلم، وهنا أستحضر نصا عله ظالم أو مستبد في تعبيره وجارح في وصف حالنا.. يقول علي الطنطاوي "لا، يا ولدي، لا تحرص على هذه المهنة. اتركها إن استطعت فهي محنة لا مهنة. هي ممات بطيء لا حياة.
  

محنة المعلم في وطني أضحت مصيبة لا مخرج لنا منها إلا بمراجعة مكانة المعلم اجتماعيا وماديا ومعنويا! تبقى الرسالة نبيلة.. ويبقى المعلم تلك الشمعة التي تحترق لتنير طريق الآخرين

إن المعلم هو الشهيد المجهول الذي يعيش ويموت ولا يدري به أحد، ولا يذكره الناس إلا ليضحكوا على نوادره وحماقاته".. وهذا سبب من أسباب عزوفي عن العودة إلى دواليب الجامعة والتريس.. عهدت العلم نورا والمعلم نسيجا قويا من الأخلاق والقيم النبيلة.. يشقى المعلم في سبيل الارتقاء بالنفوس والمجتمعات إلى المعالي.. يحمل رسالة العلم والأخلاق.. أمانته أجيال على العاتق.. وهديته كلمة شكر توضع فوق الرأس تاجَ فخر، وتعلق نيشان عز للمجتمع..
   
أين نحن من حكمة "من علمني حرفا كنت له عبدا"؟ قيل "المعرفة فنّ لكنّ التعليم فن آخر قائم بذاته"، فما أنتم فاعلون بمجد الأمة وفخرها؟ كوادر جامعية ومختصون وباحثون يتظاهرون ويضربون ويعتصمون ويغادرون أروقة "الحرم الجامعي".. 4 آلاف أستاذ جامعي هاجروا إلى الخارج في تونس، كما أن 80 بالمائة من الأساتذة الجامعيين ينوون الهجرة بدورهم.. ثم تتساءلون عن خراب البلاد؟ وتستعجلون القرارات وشبابنا تائه عاجز إما منتحر أو حارق أو في دواليب الخمر والمخدرات عاجز.. أو بين أنياب "داعش" وما شابه قابع.. بينما نبلاء الأمة وأشرافها وأخيارها يهتفون بشعارات عار عليكم لا عليهم.. "لا تكلف نفس إلا وسعها".
 

ومحنة المعلم في وطني أضحت مصيبة لا مخرج لنا منها إلا بمراجعة مكانة المعلم اجتماعيا وماديا ومعنويا! تبقى الرسالة نبيلة.. ويبقى المعلم تلك الشمعة التي تحترق لتنير طريق الآخرين.. قد أعود يوما لأروقة الجامعة لأنقل علما وأنير دروبا.. وسيكون العود أحمد، فطريق الجهل قصير بسياسات الأوطان المغتصبة لحق العلم وقدر المعلم.. فشلل المجتمع في عجز نخبته من الجامعيين والباحثين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.