شعار قسم مدونات

حين تصبح الانتخابات تهديدا للديمقراطية

blogs - elections
الديمقراطية: الهدف السامي للشعوب المضطهدة، الملجأ لتحقيق المساواة وضمان الحريّة وتكريس التداول السلمي على الحكم والفصل بين السّلط. الديمقراطيّة ذات ميزتين في شدّ وجذب؛ فهي التي تقوم على إشراك الشعب في اختيار القيادة السياسيّة، وهي التي تصبغ السلطة بشرعيّة التفويض الشعبي، وهو ما يحقق علاقة الاستئمان وحالة الرعاية التي يقدّمها المكلَّف للمكلِّف.
لكن.. تحقيق رغبات الجمهور كمنجز لدمقرطة الشأن العام هو أهم سلبياتها، ذلك أنّ عمليّات التصويت تتوقف فقط عند إبراز الميول والتحيزات الضيّقة الفئوية، الحزبية، المذهبية، وليس على أساس المصالح العامة. وعليه تحضى "أحيانا" السياسات السيّئة بشرعية الرغبة والمطلب الشعبي.
 
فالديمقراطيّة التي تقدّم ما يطلبه المشاهدون (المواطنون) -وهذا هو سبب فشلها- تثبت في أحيان كثيرة أنّ الخيار كان خاطئا، وتتغيّر النظرة بالتجربة وبمرور الوقت، وحينها يكون قد فات الأوان؛ فتغيير هذه الخيارات يكون مكلفا حتى ولو كان بآليات ديمقراطية.

لو تناولنا فكرة استطلاعات الرأي والإحصائيات ومراكز الاستبيانات كآليّة أخرى كان الهدف منها تحويل الواقع المجتمعي من آراء متناثرة هنا وهناك لأرقام وتوجّهات قد تساعد الفاعلين السياسيين على فهم النسيج المجتمعيّ

هذا ما يفرض على الممارسة الديمقراطية الخروج من الشكليّة حيث تُفقدها جدواها ونجاعتها، وعالمنا العربي في هذه المرحلة الحرجة يسعى لتجذير الديمقراطيّة كحلّ وغاية منبثقة من الربيع العربي، لكنّه في جزء كبير ظلّ يستنسخ التجربة الغربيّة دون أخذ بعين الاعتبار خصوصيّة الشعوب العربيّة، ودون إسباغ للبصمة المجدّدة والمصحّحة لما بان من عيوب للديمقراطيّة. وما يجدر أخذه بعين الاعتبار هو أنّ الديمقراطية كفكرة ومسار تنويريّ مصلح للشأن العام في الدول هي مكسب وحلّ قاد البشريّة لتحقيق العدالة والكرامة الإنسانيّة وضبط النظام. بَيدَ أنّها ككل مشروع؛ بمرور الوقت والتجارب يهترئ فتبرز عيوبه. الفكرة عندما تحتكم للشكلانيّة تصبح مجرد خرقة لتلميع ما فسد من أصلها.

 
صحيح أنّ صفة الناخب هي التي تجعل المواطن البسيط فاعلا ومقرّرا في السباق الانتخابيّ، ولكنها تجعله يكتفي بها على أن يستمرّ -ولو بشكل ضمني- في المساهمة في صناعة وتقييم السياسات العامّة، ويقف دوره عند الخلوة الانتخابيّة التي قد تصبح كشكا للتصويت؛ أي مجرّد شكل مضلّل تنبع منه نتائج في أحيان كثيرة تشبهه. 
   
"الديمقراطيّون -الريالييون- les réalistes (الحقيقيون) يهاجمون النظريّة الرومانسيّة في قلب التفكير المعاصر حول السياسة الديمقراطيّة والحكومة، ويقدّمون وجهة نظر استفزازيّة بديلة تقوم على الطبيعة البشريّة الفعليّة للمواطنين الديمقراطيين" هكذا قال كريستوفر آخن ولاري بارتلز في كتابهما "الديمقراطيّة عند -الرياليين- (الحقيقيين): لماذا لا تنتج الحكومة المسؤولة؟" حيث إنّ التصويت كآليّة ديمقراطيّة حرّة مباشرة وسريّة شابتها عدة عيوب، إذ أصبحت توجَّه عبر مقاربات متنوعة في الأدوات والآثار على أساس الولاءات والتوجّهات الاجتماعيّة الشعبوية وليس القضايا السياسيّة المجتمعيّة الحقيقية.
  
في البداية، لو نظرنا لفكرة الأحزاب السياسيّة، التي نشأت لتعمل على تأطير الحياة العامة -أفراد ومجموعات- وتوضيح الخيارات والتوجهات ورسم سياسة عمومية وبناء برامج حكومية بشكل يحفظ حقوق الأجيال القادمة لكلّ أمّة، بل للبشرية عموما، نراها باتت محلّ تأرجح وانقسام وتجاذب دفع المجتمعات لمزيد من الانقسام والاستقطاب بدل عقلنته والعمل على تأطيره عبر المؤسسة الحزبية. كما أصبح الانخراط فيها أحيانا (حجم الحزب) يوجّه الرأي العام للكشف على مآلات التصويت حتى قبل إعلان النتائج.
   
ثمّ، لو تناولنا فكرة استطلاعات الرأي والإحصائيات ومراكز الاستبيانات كآليّة أخرى كان الهدف منها تحويل الواقع المجتمعي من آراء متناثرة هنا وهناك لأرقام وتوجّهات قد تساعد الفاعلين السياسيين على فهم النسيج المجتمعيّ وما يحكمه من تداعيات واستنتاجات، أصبحت قابلة للتلاعب من طرف القوى المتحكّمة والأموال المتجهة لصنع رأي يتغلغل ويتسرب في وعي ولاوعي الشعوب بدل أن ينبع منها، وانقلب أحيانا السهم الذي كان متجها من التحليل إلى النتيجة، وبات من النتيجة المرغوبة التي ستوجّه الرأي العام المتلقي.
  
حكّام استبداديون ومنقلبون كثر يتشدّقون بالانتخابات كسبيل لإضفاء شرعيّة لأنفسهم، وهم بفهمهم الشكلاني المسرحي للسياسة جعلوها سلاحا ذا حدّين بتزويرهم واستغلالهم الحملات الانتخابيّة
حكّام استبداديون ومنقلبون كثر يتشدّقون بالانتخابات كسبيل لإضفاء شرعيّة لأنفسهم، وهم بفهمهم الشكلاني المسرحي للسياسة جعلوها سلاحا ذا حدّين بتزويرهم واستغلالهم الحملات الانتخابيّة
  
كذلك، لو دققنا النظر في المجتمع المدني كأحد الفواعل، والذي بات يلعب دورا ودورا مهما في الإحاطة بالحياة السياسيّة والتأثير فيها، لوجدناه في بعض الأحيان يمثل سبيلا للتدخّل في قطريّة الوطن لحساب العولمة الجديدة التي تستنسخ كل طاقات الخارج للداخل، فالشبكات العنقوديّة من المال والفكر والإمكانيات باتت منتشرة وغالبة على الخاص بالعام، وعلى الوطنيّ بالعالميّ.
   
وبناء على ما سبق، بات الرأي العام موجّها بشكل اصطناعي مبتذل لما يخدم لوبيات السياسة والمال والأعمال، وتستعمل الديمقراطيّة كمجرد شكل لتزيين ذلك؛ فالانتخابات هي من أوصلت السيسي بعد انقلابه على أوّل رئيس منتخب في مصر لرئاسة الدولة بتفويض شعبي سنة 2014، وترمب الذي يحكم دولة من أهم دول العالم بتغريدة على تويتر والذي يشوب صعوده للرئاسة الكثير من اللغط حول المال الفاسد والاتصال السري مع الروس و"التخابر" مع اللوبي الصهيوني، هذا "المعتوه" -كما يحلو للبعض تسميته- الذي بدأ بمراجعة ونقض عديد المعاهدات التي صادقت عليها بلاده، وأحدث فوضى غريبة صلب الإدارة الأمريكيّة جاءت به انتخابات 2016، وحتى هتلر جاء للعالم زعيما منتخبا من شعبه.
   
هذا مربط الفرس، فنحن نجد حكّاما استبداديين ومنقلبين كثرا يتشدّقون بالانتخابات كسبيل لإضفاء شرعيّة لأنفسهم، وهم بفهمهم الشكلاني المسرحي للسياسة جعلوها سلاحا ذا حدّين بتزويرهم واستغلالهم الحملات الانتخابيّة لتسويق الأكاذيب وتشويه المنافسين، يكتشف الناخب المسكين حقيقة الأمر متأخّرا. السؤال هنا وهو الأهم؛ هل بلغت الديمقراطيّة مداها كإبداع إنساني ووقفت عند حدودها أم ثمّة إمكانية لإعادة خلق آلية حكم تستلهم منها وتتجاوز معوّقاتها الشكلانية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.