شعار قسم مدونات

المزيد من الألم.. لأطفال سعداء

blogs - kid
أرى في محيطي الاجتماعي وعلى الإنترنت أيضا، تسارع الآباء والأمهات لإسعاد أطفالهم بكل شكل وطريقة ممكنة، بحيث تصبح كلمة "طفولة سعيدة" مساوية لكلمة "طفل لا يبكي على الإطلاق" أو "طفل مبتسم دائما"، أو بمعنى آخر طفل محمي من كل المشاعر السلبية، مما يجعلني أتساءل عما يمكن أن ينتج عن جيل لم يُربّ إلا على السعادة المطلقة، وتصبح مشاعر الحزن أو الإحباط (أو غيرها من مشاعر الحزن) منتقدة ومثار استنكار؟

  
بل وتجعل الآباء يهرولون من أجل إحاطتها ومقاومتها وتشتيت الطفل عنها وكأنها مرض خطير، هذه الهرولة هي في جوهرها استنكار لهذه المشاعر السلبية، ورفض مقنع لها، ما الذي سيصل لطفل يتصرف أبواه طوال الوقت بطريقة "ابني يبكي؟ يا للمصيبة"، وما الذي سيصل لطفل يتصرف أبواه بطريقة "ابني يبكي"؟
  
جميل أن تفرغ مشاعرك وتعبر عن نفسك.. كيف سيكبر كلا الطفلين، وكيف سيشعران عندما يكبران ويرغبان في البكاء؟ كل هذا في عصر يقدس الصورة و"التسويق" للحياة الرائعة الجميلة، التسويق لصور معينة من السعادة، عصر الصورة المنمقة والنموذج الواحد لما يجب أن تكون عليه الحياة؛ الحياة الخالية من الألم التي تنبذ الضعفاء والحزانى والمكتئبين، ولا ترغب إلا في السعداء سعادة غامرة بشكل سطحي ومستفز.

  

كيف يمكنني أن أكون أكثر إنسانية وأنا مكمّم المشاعر، غير مسموح لي بإظهار حزني، كنتيجة طبيعية ومع الوقت تتضاءل قدرتنا على الإحساس بأنفسنا والإحساس بآلامنا، فكيف يُطلب مني أن أشعر بالآخرين؟

في هذه السياقات، لا أستطيع إلا أن أتوقع أن الطفل الأول وبشكل غريزي سيشعر بالعار، وأن بكاءه ما هو إلا فضيحة يجب تداركها بأسرع طريقة، وهكذا تتراكم المشاعر فوق بعضها دون تعامل صحي، وسيفقد الأطفال قدرتهم على أن يكونوا أكثر صبرا على مشاعرهم، وأن يتعاملوا معها بطريقة صحيحة، أن يقدروا أنفسهم ومشاعرهم وحقيقتها، لا أن يقفوا لوهلة أمام أنفسهم غير قادرين على تمييز إن كان هذا الحزن حقيقيا أم لا، إن كان هذا الألم مُستحقا للحزن، أن يتعلموا أن يأخذ كل شيء وقته حتى الحزن والألم..

   

ككبار، تجاربنا الحزينة تنضجنا، مرورنا بالألم ينوّرنا ويكشف عن دواخلنا وجوهرنا أكثر مما تفعل السعادة، وكذلك الأطفال، باعتبارهم "إنسانا كاملا في طور الاكتمال والنمو الجسدي والنفسي"، يمكن للحزن أن يكون مفيدا لأطفالنا، ينضجهم ويكشف عن دواخلهم ويجعلهم أكثر قربا لجوهرهم وأرواحهم، ويعبر بهم بخطوات أكثر حكمة واتزانا نحو مراهقتهم وشبابهم، مرورهم بآلام تتناسب مع أعمارهم.

    
الحزن يعني تطويرهم لقدرتهم على مواجهة الألم، حين يكبرون تكبر هذه القدرة معهم، فتصبح قدرتهم على مواجهة الألم أعلى وأكثر مرونة، -يمكنكم القراءة أكثر في هذه النقطة بالبحث عن كلمة "resilience" على الإنترنت- مرورهم بالتجارب الصعبة الحزينة بما يتناسب مع أعمارهم يجعلهم يفهمون ويدركون أنهم منفصلون عن مشاعرهم، وأن هذه المشاعر لا تعرفهم، طفلي"حزين" وحزنه مقدر، وليس طفلي"نكد"، يفهمون أن كل هذا الحزن يمكن أن يمر، كما يمكن للسعادة أن تمر، وأن المشاعر متعاقبة..

 

معالجتنا لطريقة تعاملنا مع الحزن، ونضجنا الشخصي، يساهم بشكل مباشر في فرص أفضل لأطفالنا أن يكونوا أكثر نضجا ورضا، وهو منتهى الأمل
معالجتنا لطريقة تعاملنا مع الحزن، ونضجنا الشخصي، يساهم بشكل مباشر في فرص أفضل لأطفالنا أن يكونوا أكثر نضجا ورضا، وهو منتهى الأمل
 

الألم والحزن يقربنا ككبار أكثر من الآخرين، أن نفهم ما يعنيه الألم فعلا، أو الإحباط، أو الفقد، يجعلنا أكثر تعاطفا مع من يمرون بمشاعر شبيهة، كيف يمكنني أن أتعاطف وأكون أكثر إنسانية وأنا لم أختبر الحزن فعلا في حياتي، لم يسمح لي، ولم أتأمله ولم ألمسه كتجربة إنسانية حقيقية؟
 
كيف يمكنني أن أكون أكثر إنسانية وأنا مكمّم المشاعر، غير مسموح لي بإظهار حزني، كنتيجة طبيعية ومع الوقت تتضاءل قدرتنا على الإحساس بأنفسنا والإحساس بآلامنا، فكيف يُطلب مني أن أشعر بالآخرين، أن أقدر أحزانهم وأمنحهم ما يحتاجونه من الدعم والعطف بلا شفقة تثير اشمئزازهم؟ كل هذا يمكن للأطفال -كآدميين صغار- أن يتعلموه ويختبروه من خلال الحزن، ومن خلال أن تترك لهم المساحة الكافية للشعور بأنفسهم، كل هذا على أمل أن نربي أطفالا أقل فردية، أكثر تعاطفا مع أنفسهم والآخرين، أكثر سلاما ورضا وسعادة..
  
صحيح أن ما أكتبه هو عن الأطفال، لأهاليهم وللمهتمين بهم، ولكني أفكر أن هذا ينطبق علينا أيضا، شعورنا بالحزن وإدراكنا له، وطريقة تعاملنا معه بالتقبل أو الإنكار ينتقل كالعدوى لأطفالنا، لأنهم يقلدون كل شيء حتى الانفعالات، معالجتنا لطريقة تعاملنا مع الحزن، ونضجنا الشخصي، يساهم بشكل مباشر في فرص أفضل لأطفالنا أن يكونوا أكثر نضجا ورضا، وهو منتهى الأمل..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.