شعار قسم مدونات

الصورة.. ذاكرتنا عندما ننسى

blogs - photos

وأنا في العاشرة من عمري أو أكبر بقليل، كان لدي دفتر أصفر اللون، أكتب فيه قصصا طفوليَّة بخط متعثر، آخذ من أبطال القصص التي كانت تشتريها لي أمي، وأنسج قصصي الخاصة. كانت أختي الصغرى تحب حكايا ما قبل النوم، فكان دفتري الأصفر لهذا الغرض. كبرتُ وكبرت حكاياي واكتسب قلمي شيئا من نضج، وصار لدي اهتمام بأمورِ الإعلام -أو الحَكْي- كلها، لكنني -كعادة المرء ينتصر لما يفعل- كنت أرى الحكي بالنصّ هو الأهم، وأقلل من كل أنواع الحكي الأخرى، خاصة الصور.

 

صديقتي المقرّبة تهوى التصوير، كانت تخبرني دائما أنها تود امتلاك كاميرا احترافيَّة، كنت أشجعها على الأمر وعلى صقل موهبتها، لكن في داخلي لم أكن أرى للتصوير تلك الأهمية، ألا يكفي أن نلتقط بالهاتف بعض الصور؟ لكنني أعود فأفكر في الصور التي توثّق الأحداث السياسية أو حتى الصور العائلية وصور الأحداث العامة العادية، وتساؤلات نفسي تتصاعد: هل يمكن أن يتفوق النص على الصورة حقا؟ أيهما يسبق الآخر؟

 

الكتابة مهمة؛ بل مهمة جدا نعم، لكن الصور لا تقل أهمية، لأن للصورِ ذاكرة لا تَنسى عندما ننسى نحن، لا تُسقط تفاصيل قد تسقطها محاولاتنا للحكي بالحروف

في ذكرى فضّ رابعة الماضية -والتي كنت أحاول تجاهل ذكراها دائما- أرسل لي أحدهم مجموعة صور عن المذبحة، حكت لي الصور ما لم أشهده، ذُهلت من هول التفاصيل فيها، إحدى الصور كانت لجنديّ يمسكُ سلاحه، تملأ موضع قدميه ملابس كستها الدماء، وأمامه مدرعة يرفرف عليها علم مصر، صرخت: يا ربي؛ كل الحكاية جُمعت في صورة! قتلوا أبناء الوطن باسم الوطن.

 

سور قصير، يحاوطه زجاج مهشّم، كلما شاهدت تلك الصورة بكيت. كانت لحدث اعتقال زميليَّ في نشاط طلابيّ يتبعُ للجامعة. في أحد اجتماعات النشاط، اقتحمت قوات الأمنِ "الوطنيّ" مقر الاجتماع، أطلقوا رَصاصات عشوائية، أصابت إحداها سيدة ثلاثينية في مطعم صغير بالمبنى الذي كان فيه الاجتماع، كان الزجاج المهشّم هو زجاج ذلك المطعم، وماتت السيدة.. تحملُ تلك الصورة كل مشاعري في ذلك اليوم، التي لم أقوَ على الكتابة عنها حتى اليوم، وقد قاربت ذكراها الأولى.

 
في سوريا، التقِطت صورة لأب وامرأته يحملان طفليهما الرضيعين اللذين قتلهما القصف، قمت بحفظِ تلك اللقطة على هاتفي، وكلما رأيتها كنت أدعو بحرقة "الله يلعن روحك يا بشّار"، ويكادُ قلبي ينفرط من وقعِ الصورة عليه، صور الثورةِ السورية تحديدا لو أنَّ ألفَ كاتب اجتمعوا ليكتبوا فيها لما وفّت نصوصهم وأتت بمثل ما أتت به الصورُ على قسوتِها.

 

هل كان أحد ليذكر محمد الدُّرَّة أو يكتب عنه لليومِ لولا صورته الشهيرة وأبوه يدثره داخله؟.. لأن للصورِ ذاكرة لا تَنسى عندما ننسى نحن
هل كان أحد ليذكر محمد الدُّرَّة أو يكتب عنه لليومِ لولا صورته الشهيرة وأبوه يدثره داخله؟.. لأن للصورِ ذاكرة لا تَنسى عندما ننسى نحن
   

بعد نكبةِ العربِ التي تلتها كل النكبات، التقطت صورة بالأبيض والأسود -قبل أن تُلّون الصور ونحاول التقليل من رمادية الأحداث والمآسي بالألوان- لعجوز اجتمعت فيها ملامح الزمن، تجلس أمام خيمتها، مقطبة حاجبيها، وتضع كفيها على فمها، لم تجد تعبيرا لحكي هولِ أن تؤخذ من وطنها أو يؤخذ منها بعد أن قاربت القرن فيه سوى الصمت، سرقةُ الذكريات أقسى سرقة قد يلاقيها إنسان!

  

لمَّا رحلت عنَّا السيدة راء -الكاتبة الروائية رضوى عاشور-؛ انتشرت على مِنصات التواصل الاجتماعي صورة لتميم ومريد، ابنها وزوجها، يستندان على النعشِ، منكِّسين رأسيهما، ونظراتهما ضائعة في الفراغ، لم أذقْ معنى الفَقد في حياتي مثلما ذقته من هذه الصورة.

  

هل كان أحد ليذكر محمد الدُّرَّة أو يكتب عنه لليومِ لولا صورته الشهيرة وأبوه يدثره داخله؟ هل كانت ذاكرتي لتسعفني بعد عام، اثنين، أو حتى عشرة لأذكر ملامح جدتي المتوفاة حينَ يتملّكني الشوق؟ لربما أنا مغرمة بالكتابة والنصوص ومطالعة التاريخ المكتوب، لكنني بتُّ أؤمن أنه في أحيان كثيرة، الصور تحكي أكثر من النصّ. الصور لا تكذب بقدرِ ما يحتملُ أن يكتب أحدهم التاريخ مثلا على هواه وآرائه وسياقه الخاص، قد يُؤتى بالصور -أيضا- في غير سياقها نعم، والكتابة مهمة؛ بل مهمة جدا نعم، لكن الصور لا تقل أهمية، لأن للصورِ ذاكرة لا تَنسى عندما ننسى نحن، لا تُسقط تفاصيل قد تسقطها محاولاتنا للحكي بالحروف، ولأن الصور تستطيع حكي ما قد يعجز عنه النصّ، فأنتَ في حيز صغير جدا تصف الزمان والمكان والحَدث.. بتُّ أؤمن أن الصورة هي التي تحكي للنص!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.