شعار قسم مدونات

التنبؤ بالثورات.. كذب المحللون ولو صدقوا

blogs - man

كان اندلاع ثورات الربيع العربي مطلع عام 2011 حدثا مباغتا للجميع، فلم يكن بمقدور المحللين السياسيين ولا مراكز الدراسات ولا حتى المنجمين توقع اندلاعها، فرغم أن جميع المؤشرات في المنطقة العربية توحي بإمكانية اندلاع الثورات، إلا أن أحدا لم يتوقع ما حصل، وظل الجميع يكرر سؤالا خاطئا هو؛ لماذا الآن؟ بينما السؤال الصحيح هو؛ ما الذي جعل الثورات تتأخر حتى الآن؟

   

فإذا أخذنا الأوضاع في مصر مثالا؛ سنجد أنها منذ التدوين الحديث للتاريخ كانت على شفا الثورة، ورغم ذلك لا يستطيع أحد من المتابعين تقدير الوقت الذي يصل فيه الشارع إلى حالة الغليان القصوى التي تؤدي إلى الانفجار، والسبب في ذلك أن العلوم الاجتماعية والظواهر المعقدة كالثورات لا تشبه نظيرتها التطبيقية، فهذه العلوم تتسم عموما بانتفاء السببية، حيث لا توجد علاقات خطية واضحة بين الأسباب والنتائج، كما هو في علوم الفيزياء والكيمياء، لذلك تكون التفسيرات المطروحة لهذه الظواهر، مجرد اجتهادات منطقية مطروحة من جانب المحللين أكثر منها علاقات ارتباطية واقعية بين الأسباب والنتائج.

   

مفهوم الثورة ليس هو الشيء الوحيد المنقوص لدينا، فحتى نظرتنا إلى الثورات وسلوكنا في توقع مساراتها يعكس جهلا سياسيا وأكاديميا فاحشا في هذا المجال

ويمكن القول عموما، إن الثورات والانتفاضات الشعبية تميل لمفاجأة الجميع، فالثورات لا تتشكل ولا تنمو بهدوء وروية، بل تندلع وتنفجر بشكل مفاجئ كما ينفجر البركان، ولا توجد علامات محددة يمكن الاسترشاد بها لمعرفة الوقت الذي يمكن أن تندلع فيه هذه الثورات، وجل ما نستطيع قوله إن هذه المنطقة أو تلك حبلى بالثورات، لكننا نظل غير قادرين على التنبؤ بوقتها، هذا إذا كنا أصلا متأكدين من اندلاعها.

   

حتى إذا نظرنا في الطريقة التي تندلع بها الثورات بالعادة، سنصاب بدهشة عارمة، ففي أغلب الأوقات نتوقع أن يؤدي رفع الأسعار أو تزوير الانتخابات أو أحداث كبرى معينة إلى اندلاع ثورة شعبية في بلد معين، لكن الثورة لا تحدث، ثم يأتي سبب بسيط في ظاهره، كحادثة حرق البوعزيزي لنفسه، يؤدي إلى اندلاع ثورة تمتد إلى عدة دول، وتقضي على أنظمة استبدادية كانت قادرة على الاستمرار لعقود من الزمان.

   

وإذا درسنا العديد من الحالات التي اندلعت فيها الثورات، سنجد أنفسنا غير قادرين على توقع السبب الذي سيؤدي إلى غضب الجماهير واندفاعها نحو الثورة، فلا العلوم السياسية ولا حتى الاجتماعية لديها القدرة التنبئية لمعرفة التوقيت الذي يصل فيه الشعب إلى حد الانفجار، فهناك عدد لا نهائي من المعطيات والتحولات المجتمعية التي تحصل خلال عقود قصيرة من الزمن، تجعل المحللين غير قادرين على التنبؤ بالسلوك الجماهيري، الذي كما أسلفنا لا يخضع لقواعد محددة، يمكن أن نعرف من خلالها خط سيره.
     

والحقيقية أن عدم قدرتنا على التنبؤ بالثورات وتوقع مسارها، ليس أمرا جديدا، والأصل أنه معروف لدى جميع علماء الاجتماع والمحللين السياسيين، لكن الغريب في الأمر، أن سؤال؛ لماذا لم نتوقع الثورة؟ يبدأ في كل مرة تحصل فيها ثورة في أي مكان بالعالم، لتبدأ معه الأسئلة الخاطئة مثل؛ لماذا الآن؟ وما الذي يحصل؟ والسبب في ذلك أن مفاهيمنا حول الثورات في جلها خاطئة، فمثلا؛ عندما تتم الإشارة إلى الثورة الإيرانية عام 1979 كمثال على عدم القدرة على التنبؤ بالثورات -وكأننا في الأصل استطعنا توقع الثورات السابقة أو اللاحقة- فهذا دليل على أن مفهوم الثورة كظاهرة اجتماعية ما زال منقوصا لدينا.

    

نحن تقريبا نكاد لا ندرك شيئا حول هذه الظاهرة الاجتماعية (ظاهرة الثورات)، سوى أننا خضنا تجربة فاشلة لم نتعلم منها سوى شتم بعضنا البعض، وإلقاء اللوم على الآخرين
نحن تقريبا نكاد لا ندرك شيئا حول هذه الظاهرة الاجتماعية (ظاهرة الثورات)، سوى أننا خضنا تجربة فاشلة لم نتعلم منها سوى شتم بعضنا البعض، وإلقاء اللوم على الآخرين
   

والواقع أن مفهوم الثورة ليس هو الشيء الوحيد المنقوص لدينا، فحتى نظرتنا إلى الثورات وسلوكنا في توقع مساراتها يعكس جهلا سياسيا وأكاديميا فاحشا في هذا المجال، والسبب طبعا لا ينبع من قلة دراستنا لهذا المجال أو معرفتنا التاريخية بهذه الظاهرة فقط، بل من الأخطاء الإدراكية التي نمارسها في التعامل مع مثل هذه الظواهر.

  

فنحن في العادة، نمارس عددا من الأخطاء الإدراكية عندما نحاول تحليل مثل هذه الظواهر المعقدة، فعلى سبيل المثال؛ فور اندلاع الثورات العربية، بدأ الكثير من المحللين يعقد تماثلا زائفا بينها وبين الثورة الفرنسية أو الثورات السابقة اعتقادا منه بأن التشابه بين سياقات ومعطيات ماضية والواقع الراهن سيؤدي بالضرورة إلى نتائج مشابهة، ومن هنا يبدأ البعض بادعاء اليقين حول ما سيحصل في المستقبل، رغم أنه فشل في توقع ما حصل في الماضي.

  

طبعا، هذا ليس الخطأ الإدراكي الوحيد الذي نمارسه في التعامل مع ظاهرة الثورات المعقدة، لكنه مثال من مجموعة أمثلة حول الأخطاء التي نمارسها في تحليل الثورات، والحقيقة أنني عندما بدأت الشروع في هذه التدوينة، قررت أن أقرأ مجموعة من المقالات والأبحاث حول هذا الموضوع، و صدمت عندما اكتشفت أننا نتعامل بسطحية مفرطة اتجاه تحليل الثورات، فنحن تقريبا نكاد لا ندرك شيئا حول هذه الظاهرة الاجتماعية، سوى أننا خضنا تجربة فاشلة لم نتعلم منها سوى شتم بعضنا البعض، وإلقاء اللوم على الآخرين.
     
فعندما اندلعت الثورات العربية تجاهل الكثير منا في تحليلاته أهمية الجيش ودوره في نجاح الثورة من عدمه، ولذلك، رأيت من الضرورة أن أبدأ في سلسلة من التدوينات حول هذا الموضوع، أتطرق فيها إلى مفهوم الثورات، والعوامل التي تؤدي إلى نجاحها أو فشلها، وهنا لا أزعم أني أمتلك المعرفة في هذا المجال الشائك الذي يختلف فيه علماء الاجتماع أنفسهم، ولكنني سأحاول أن أطرح الموضوع من وجهة نظري الشخصية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.