إلا أن أغلب ناشريها لا يخرجون عن ثلاثة: إما متزوجون ويرددونها اتباعا وليس اقتناعا، أو منسلخون من تجربة زواج فاشلة، أو عاجزون عن الارتباط إما لأسباب نفسية أو اقتصادية واجتماعية دفعتهم لإيجاد منافذ أخرى تغنيهم عن الارتباط الرسمي.
الزواج في جوهره، ماهو إلا قيمة روحانية وإنسانية، ومصدر للتنوُّر والحكمة والارتقاء والسعادة والثقة المتبادلة، وهي معان لا نستطيع حصرها تحت أي مسمى، فعلى من لا يدرك ذلك أن يظل أعزب |
فهو السبيل الذي اختاره الرب الكريم للتوالد والتكاثر واستمرار الحياة وتعمير الأرض، ولم يشأ أن يجعل الإنسان كغيره من العوالم، فيدع غرائزه تنطلق دون تَلْجيم، تهيم في فوضى لا ضابطَ لها. بل سنّ القانون المناسب لعباده، والذي من شأنه أن يصون عِرضَهم، ويحفظ كرامتهم. فجعل علاقة الرجل بالمرأة مبنية على ميثاق غليظ وارتباط كريم.
وبهذا وضع للغريزة سبيلها المأمونة، وأعفّها عما حرم الله، وحمى الذرية والنسل من الضياع والاختلاط، وصان المرأة عن أن تكون كلاء مباحا لكل راتع. ووضع أساس الأسرة في نظام دقيق يقوم على فطرة الأبوة والأمومة المودعة غريزيا في الإنسان. لكن ما إن نرجع إلى الأعراف الاجتماعية، نجدها أفقدت الزواج معناه، وأفرغته من محتواه، ووضعت الأشخاص في إطار محدد تفضّل أن تراهم من خلاله، فلا قيمة للرجل إلا إذا تزوج، ولا للمرأة إلا إذا أنجبت، ومَن لم يقم بدوره الذي حدد قبلُ، يُنظر إليه كالذي يُغرد خارج السرب.
وقد حدد الرسول الكريم، المعيار الذي يجب أن يٌقام على أساسه الاختيار الصحيح بقوله: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". هنا يتضح أن النبي اعتبر معيار الدين والأخلاق، هو ما يجب أن يبنى على أساسه الارتباط، فلم يقدم المعيار المادي أو الاجتماعي، أو التعليمي رغم أهميته وتأثيره في الزواج، خاصة وأن اتساع الفجوة الثقافية بين الطرفين تنعكس سلبا على الاستقرار الأسري، وحين تٌقدم هذه المعايير على معيار الدين والخلق الحسن، فإن النتيجة ستكون وقوع الفتنة والفساد على مستوى الأفراد والأسرة والمجتمع، ولا أدل على ذلك من انتشار الخلافات الأسرية، وارتفاع معدلات الطلاق بسبب إهمال الدين والأخلاق في أغلب حالات الزواج والالتفات للجوانب المادية بشكل مبالغ فيه، والمهور الغالية التي ما هي في الأصل إلا هدية تعبر عن رغبة وتقدير الرجل لهذه المرأة. فكانت النتيجة تبني تلك الشعارات، والهروب من هذه القيود وتفضيل حياة العزوبة.
وحقيقة الأمر أن الزواج في جوهره، ماهو إلا قيمة روحانية وإنسانية، ومصدر للتنوُّر والحكمة والارتقاء والسعادة والثقة المتبادلة، وهي معان لا نستطيع حصرها تحت أي مسمى، فعلى من لا يدرك ذلك أن يظل أعزب حتى يستوعب سمو هذه العلاقة. وعلى المجتمع أن يُرسي المفاهيم الصحيحة للارتباط القائم على أساس الشراكة والرحمة والاحترام، مما يسهم في فهم هذه العلاقة السامية والمقدسة فهما صحيحا؛ فالزواج لا يجب أن يكون مجرد "إطار جميل" من الخارج في حين أن السوس ينخره من الداخل.
ويجب أن تحظى مسألة اختيار الشريك بأهمية أدق، خاصة وأن البعض جعلها بضخامة الكون أو رهبة الموت. لذلك فإن هذا الاختيار، يجب ألا يُبنى على المتاح، بل على اتباع قواعد وأسس منطقية ونفسية سليمة، وعلى قراءة ما وراء السطور، عن طريق البحث عن شخص تستطيع تقبُّل نقائصه، وليس الانبهار بميزاته. حتى وإن اتهمت بالعقلانية المفرطة.
ولذلك فإن معظم العلاقات المبنية على أساسات لا عماد لها، والمنجرفة وراء المشاعر والعواطف السطحية، أو المركزة على مجموعة من الأشياء، مثل ميزات شكلية معينة، أو الثقافة والوظيفة، والإنجازات، أو ربما موهبة معينة. تبوء بالفشل، أو تظل قائمة ولكن بلا سعادة، لذا فالعزوبة بالتأكيد هي خيار أسعد للبعض طالما لم يغير المجتمع والأفراد فكرتهم عن مؤسسة الزواج.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.