شعار قسم مدونات

فيلم "Get out".. ما وراء العنصرية!

blogs get out movie

من بين الكثير من الأفلام التي تناولت العنصرية، ما الذي يجعل (Get out) فريدا إلى حد كبير. يحاول الفيلم هنا تقديم الفكرة في إطار مختلف. وأيضا يمكننا اعتبار الفيلم عملا مستحدثا يجمع بين الرعب والخيال العلمي. نستطيع أن نقسم الرعب في الأفلام إلى: رعب درامي ورعب فنتازي، الأول واقعي والثاني خيالي. ينتمي فيلمنا إلى الصنف الأول الرعب الدرامي.

"كريس" شاب أسود يقع في حب فتاة بيضاء تدعى "روز"، تذهب به في إحدى العطل لمقابلة والديها للمرة الأولى بمنزلهما الريفي، ويُظهر والداها كم هما منفتحان (white liberals)، وذلك بإحاطته بأشخاص سود في المنزل واحتوائه بشكل لطيف في أجواء يحفها التفهم والانفتاح، يتبين بعد ذلك أنه يتعرض لعملية اختطاف من قبل هذه العائلة المحافظة جدا، والتي هي في الحقيقة شديدة العنصرية ولديها مشروع علمي كبير، وهو محاولة الجمع بين جسد الإنسان الأسود وعقل الإنسان الأبيض.

في المنزل الريفي تحدث سلسلة من الأمور الغريبة تجعل "كريس" في قمة الارتياب والهلوسة. يلتقي بوالدة الفتاة التي تعمل كطبيبة نفسية، وتقوم بتنويمه مغنطيسيا وتعبث بلاوعيه لتهيئ عقله للحدث، وتدفع به إلى ذلك المكان الذي يسميه "جوردن" المخرج "Sunken place". سئل "جوردن" من قبل متابعيه في تويتر عن معنى هذا فأجاب: "تعني أننا مهمشون جدا، ومهما صرخنا فالنظام سيسكتنا". نستطيع فهم عملية التنويم الإيحائي عن طريق نظرية الفيلسوف "دبيوس" عن الوعي الثنائي (Double consciousness) وهي تعني أن تصور الأمريكي من أصل أفريقي عن نفسه يكون مزدوجا.

الأول تصوره أنه شخص لطيف ولديه ما يقدمه للمجتمع، والثاني أنه آخر موضوعي للرجل الأبيض، فبالتالي حضور الرجل الأبيض في واقعه بشكل دائم يشكل حالة من اللاطمئنان. في سياق الفيلم كان "كريس" يتصور ذاته ذلك الشاب المصور الموهوب، لكن تجربة تواجده في منزل مليء بأشخاص بيض جعل الوعي بهذه الثنائية (أبيض وأسود) يعمل. يظهر هذا حين تجواله مع "روز" وتعليقات الضيوف عليه وعلى جسده أيضا. نستطيع سحب هذه النظرية أيضا لتشمل الجميع، أي أن في وعي أي إنسان وعيان، وعي إيجابي عن ذاته ووعي سلبي. 

يحاول الفيلم إثبات أن العنصرية لا تنتهي ولكنها تتمظهر بشكل آخر. حيث إن العنصرية تنبع من الازدراء التام للآخر وعدم احترام خياراته في الحياة

بالنسبة "لكريس" كان الوعي السلبي جليا في كونه يظن نفسه شخصا عاجزا عن إنقاذ الآخرين (في مشهد الغزال الميت، وأيضا مشهد تأثره الشديد بموت أمه، حيث يظن أنه السبب في ذلك لأنه لم يهاتف الطوارئ وقتها) وكان هذا التصور السلبي عن نفسه هو الحلقة الضعيفة التي استطاعت والدة "روز" الدخول لعالمه اللاواعي عن طريقها، وشعوره بالعجز وعدم القدرة على فعل أي شيء. يشبه هذا كثيرا عندما تخترق الإنسان لحظات انعدام ثقة بالنفس في مواقف يحتاج أن يكون فيها واثقا، بتوسع الفجوة السالبة في تصوره لنفسه، ما يسمى التصور الذاتي أو(Self-image)، وهو ما يجعل الإنسان لا يحقق ما يرنو إليه.

تقوم الأسرة بعقد اجتماع كبير يجتمع فيه كل المؤهلين للحصول على جسد الشاب. ولكن ما الذي يجعل الرجل الأبيض يرغب في جسد رجل أسود؟ للإجابة عن هذا السؤال نستطيع استدعاء مصطلح صك في عشرينيات القرن الماضي، وهو(Negrophila)، باختصار "النيجروفيليا" هو مصطلح يصف التمثل الشديد للثقافة الزنوجية، وعكس أن السواد بمثابة التحضر. باختصار هو الرغبة الشديدة في الثقافة الزنوجية، من أغاني (Rap) إلى ارتداء قبعات السود والكلام بطريقة (Slang) ورقصات الزنوج على الساكسفون.

يظهر النزوع إلى هذه الظاهرة من خلال حوار الرجل الذي قال له: الأسود هو الموضه (Black is in fashion ). لكن "النيجروفيليا" في جوهرها هي محاولة لتنميط الرجل الأسود والتفاعل مع ثقافته كثقافة موازية أو محاولة لإشباع الرغبة، قد تكون أيضا الرغبة في الجسد الأسود (Sex sliver)، يظهر هذا في مشهد العجوز مع زوجها حين قالت "لروز": أصحيح أنه الأفضل، في إيحاء جنسي واضح.  إذن "النيجروفيليا" الكلاسيكية ليست تفهم العرق الأسود، وإنما هي استخدامه لإشباع الرغبات الشخصية، باختصار ليست تفهما ولكنها استغلال.

كان الجد (ارماتانج) عداء ماهرا، وكانت الجدة (ارماتنج) ربة منزل متميزة، لذلك اختار الجد جسد البستاني الرياضي واختارت الجدة جسد "جورجينا" الخادمة السوداء ذات البشرة البراقة، ولذلك حينما نهض ليلا وجد البستاني يتمرن على العدو، ووجد "جورجينا" تراقب المرأة وتعتني بمظهرها. أما هو -كريس- فمن سيختار جسده؟! بالرجوع لموهبته يتبين أنه مصور فوتوغرافي متميز، وهذا يعني أنه يمتاز بنظرة جمالية عالية، وهذا ما جعله هدفا لذلك الرجل الأعمى الذي كان يملك إحدى المجلات الشهيرة.

وحين خاطبه قبل الجراحة قال له: لا أعبأ أبدا بجسدك الأسود، أنا أبحث عن شيء أعمق منه، أبحث عن عينيك التي ترى بهما. يحاول السياق هنا إثبات أن الخصائص السلوكية والمهارات الذهنية تستطيع أن تنقلها بمجرد نقل المخ. يذكرني هذا بكتاب (The Heart code ) الذي يدون فيه جراح القلب "باول بارسل" مواقفه وانفعالاته مع مرضاه الذين أجرى لهم عمليات زراعة، ذكر من ضمنها ان ابنة أحد المرضى هاتفته قائلة، إن والدتي منذ إجراء العملية أصبحت تقوم في الليل وتلاكم الفراغ وهي نائمة. مستنكرة ما يحدث لأمها. هذا جعل الطبيب يبحث عن أهل المتبرع حيث اكتشف أنه كان ملاكما. وذلك الرجل العجوز الذي أصبح يحب (البطاطس المقلية)، ثم حين الاستقصاء وجد الطبيب أن المتبرع شاب في العشرين دهسته سيارة حين كان في شبك الدراجة الهوائية خاصته وجبات ماكدونالدز وكان مدمنا على البطاطا المقلية. هذا البحث الرائع يأتي في خلال الإجابة عن سؤال أين يقع العقل؟!

بالعودة إلى أجواء الفيلم مرة أخرى، نجد أن هذه العائلة تنفعل وكل المشاركين في عملية الاقتراع التي تتم عند كل ضحية، من كون أن الإنسان الأسود لديه قدرات فيزيائية جيدة، أو كما عبر عنها "جيرمي" أخ الفتاة والابن الوحيد للعائلة بمصطلح "Genetic Makeup" فالإنسان الأبيض لديه قدرات عقلية جيدة. فماذا سيحدث لو تدخل الإنسان في محاولة لدمج هذين العنصرين. لو حاولنا زرع الجذع العقلي للرجل الأبيض -الذي غالبا ما سيكون صاحب جسد متهالك عمريا أو تالف- في الجسد الأسود؟!

يقوم والد الفتاة -وهو جراح في المخ والأعصاب (Neurosurgeon)- بفك المخ بكل ناقلاته العصبية وتركيبه في جسد آخر، وهنا سيحتفظ الرجل الأبيض بكل ذكرياته وأفكاره بل وحتى سلوكه، ولكن في جسد أسود قوي ونشيط. يتجول "كريس" مع صديقته "روز" في الحديقة وهو لا يعلم بالطبع ما يحدث، وأن كل هذه الاحتفالية معدّة مسبقا لتضليله، ويقابل فجأة شخصا أسود بين الحاضرين، يسلم عليه فيتفاجأ بأن سلوكه هو سلوك إنسان أبيض (يظهر في تفاعله أثناء السلام برد القبضة الشهيرة لدى الأمريكان الأفارقة بالمصافحة مفتوحة اليد) كما أنه برفقة امرأة تكبره ب30 عاما.

يزيد هذا الأمر من حيرة "كريس" ويحاول أن يفهم ما يحدث. في البهو يقابل "كريس" والد الفتاة ومعه مجموعة من العلماء البيض ويسأله أحدهم وهو خض آسيوي: هل تظن أن وجود الرجال السود سيكون داعما لمشروع الدولة الحديثة؟! وهنا يلمح "كريس" صديقه الأسود، فيحيل إليه الإجابة عن السؤال. وأثناء حديثه يقوم "كريس" بالتقاط صورة له مما يجعله في صدمة كبيرة وكأن "فلاش" الصورة قد أعاد له وعيه من جديد. يأتي إلى كريس ويخاطبه بصوت عال ومرتبك: "اهرب من هنا".

يحاول المشهد أن يمثل نظرية تتعلق بالمخ الإنساني وكونه مشكّلا من منطقتين، منطقة عاطفية (Emotional) ومنطقة معرفية (Cognitive) (الجراحة تتم في هذه المنطقة)، لذلك عندما تتعرض الناقلات العصبية لأي مؤثر شديد التركيز (ضوء الفلاش مثلا)، فإن العقل العاطفي يستعيد وعيه اللحظي (حدث هذا أيضا عندما التقط صورة للبستاني في آخر الفيلم). يرى الفيلسوف فرانز فانون أن الرجل الأسود يتأثر لا محالة في حال حضور جموع من البيض أمامه، ويشعر بأنه غير مطمئن، هذا يفسر لماذا هرع "كريس" لذلك الرجل الأسود في تلك اللقطة قائلا له: "من الجيد رؤيتك يا أخي …" ليتفاجأ بعدها بأنه رجل أسود في ذات بيضاء، فيمتعض منه ويبتعد مغادرا المكان.

يحاول الفيلم أخيرا إثبات أن العنصرية لا تنتهي ولكنها تتمظهر بشكل آخر، حيث إن العنصرية ننبع من الازدراء التام للآخر وعدم احترام خياراته في الحياة، يظهر في السؤال الذي سأله والد الفتاة لـ"كريس" عندما حاصرته العائلة: "ما هدفك في الحياة؟!" يرد "كريس": "هدفي الآن هو مفتاح السيارة"، يعكس هذا رغبة مكبوتة لدى الرجل الأسود في الفرار دائما، وأنه كما كان يحاصر في الغابة من قبل الصيادين فإنه هنا محاصر أيضا في هذا العالم المتحضر، وليس لديه هدف سوى الفرار والنجاة. ولكن نهاية الفيلم أثبت أنه يفكر بذكاء (مشهد وضع القطنه من الأريكة في أذنه)، وينجو كإنسان وليس كوحش ضار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.