شعار قسم مدونات

على هامش المشمشيّة!

blogs المشمشية

إذا كانت كلمة "المتوول" تعني أن تقف ذاهلاً عن نفسك، غير محددٍ لاتجاه سيرك، ودون أن تكون متأكداً من توصيف مشاعرك بدقة، فيمكن أن تعتبر أنني كنت وقتها كالمتوول.

 

كنت قد رأيت للتو ما آل إليه حال أهم أماكن بيع الكتب وأقربها إلى قلبي، والذي كان يستحق عن جدارة عنوان "معرض الكتاب" الذي أطلقه أصحابه عليه، فقد كان يشغل أرضاً صغيرة تقع خلف سينما ستراند في مدخل شارع صفية زغلول، على شمالك وأنت قادم من محطة الرمل بالإسكندرية، كان يتميز عن كافة المكتبات بعرضه كافة أنواع الكتب دون تصنيف ولا ترتيب، ليختلط في جنباته الحابل بالنابل، والمهم بالهايف، لا أذكر متى بدأ عمله بالتحديد، لكنني ظللت أتردد عليه منذ مطلع التسعينيات، لتصفح الكتب فقط، فشراء الكتب لم يكن متاحاً لي وقتها إلا من أكشاك النبي دانيال، أو كشك الكتب المستعملة المجاور لسينما أمير، وعلى طول ما كنت أتصفح الكتب فيه، لا أذكر أنني تعرضت لمضايقة عامليه ولو بالزغرات، يكفي أن أخبرك بأنني حين استغلَيت ثمن مجموعة لافتات للشاعر الكبير أحمد مطر، كنت أذهب كل يوم لأقرأ أحد أجزائها ببلاش، وهو ما حاولت تعويض أصحاب المعرض عنه حين أصبحت قادراً على شراء بعض الكتب، بعد قضاء ساعات في تصفح غيرها.

 

وقفت أسترجع تلك الذكريات في ذلك اليوم من أيام صيف 2014، وأنا أشاهد معرض الأحذية، الذي حل مكان معرضي الأثير، كانت تلك المرة الأولى التي أرى مثلاً حياً لما كنت أقرأه منذ أواخر التسعينات عن ظاهرة تحول المكتبات إلى معارض للأحذية، ثم تذكرت أن هناك مكتبة كانت تقع في منتصف الشارع نفسه، تحولت إلى محل أحذية، لكن ذلك لم يستوقفني لأنني لم أدخلها سوى مرة صعقت فيها بأسعار كتبها "الفاحشة" ولا أقول الباهظة. تذكرت عدواناً بربرياً كانت قد تعرضت له قبل فترة قصيرة عدد من أكشاك الكتب والصحف التي اشتهرت بها محطة الرمل، وعدواناً مماثلاً استهدف أكشاك وفرشات الكتب في شارع النبي دانيال في عام 2012. تذكرت اختفاء الأكشاك التي تخصصت في بيع الكتب الأجنبية، كان بعضها يقع ما بين سينما أمير وسينما ريو، كنت أذهب إليها وأنا صغير بصحبة خالي الأوسط حين كان يقوي إنجليزيته على أمل بهجرة لم تتحقق. تذكرت مكتبة الأهرام التي كانت أمي تشتري منها بعض المراجع التي تساعدها في دراستها ثم في تدريسها، وكيف تدهورت أحوالها عبر السنين بشكل مؤسف.

 

كنت قد رأيت للتو ما آل إليه حال أهم أماكن بيع الكتب وأقربها إلى قلبي، والذي كان يستحق عن جدارة عنوان "معرض الكتاب" الذي أطلقه أصحابه عليه

كنت قبل وقفة الذكريات تلك قد عدت من منشأة المعارف التي تعودت دائماً أن أدخل من بابها المطل على شارع سعد زغلول وأخرج من بابها المطل على البحر، مشيّعاً بنظرات موظفيها الغاضبين على الدوام، زرت قبلها مكتبة هيئة الكتاب التي أجد لديها دائماً نسخاً من كتب الهيئة تنفد من مكتبات القاهرة، وكنت على وشك أن أكمل جولتي بزيارة مكتبة المستقبل في نهاية شارع صفية زغلول والتي أنشأها الأستاذ سلامة موسى وأدارها من بعده لسنوات ابنه رؤوف، لكنني حين شاهدت ما جرى لـ "معرضي للكتاب"، وقفت أتمِّم في دماغي على مكتباتي السكندرية، لتحار ذاكرتي فقط في تحديد موقع مكتبة دار المعارف التي كنت أذكر أن لها فرعاً في شارع سعد زغلول، كانت أمي في أيام رضاها عني تشتري لي منه كتب محمد عطية الإبراشي ثم كتب كامل كيلاني ثم كتب عبد التواب يوسف ومحمود سالم، لكنني لم أجده في جولتي تلك، فلم أعد أعرف هل نقلوه من المكان الذي ذهبت إليه، أم أنه كان يقع أصلاً في مكان آخر.

 

لم تكن تلك جولة لشراء الكتب، بل كانت جولة وداع لم أكن أدري هل سيكون مؤقتاً أم دائماً، ولم أكن في مقام التفجّع على أحوال "اسكندريتي"، فقد نبذت التفجّع بعد ابتذاله وتحوله إلى طقس فولكلوري غير مقترن بأي أفعال جماعية للمقاومة، كنت في مقام التذكّر، أمشي في هذا الشارع وتلك الحتّة، فأمتحن ذاكرتي وأحاورها عن مصير هذا المحل أو مآل تلك العمارة، وأبحث عن الوجوه التي كنت أظنها محفورة في الذاكرة، فأجد بعضها ويغيب عني أغلبها، أجلس على قهوة أحسنت إليّ يوماً ما، وأزور مطعماً كنت أحبه، فأبتهج إن وجدته محافظاً على مستواه، وأكتشف وسط ذلك التجوال الذي استمر أياماً، حضور ذكريات كثيرة انبعثت من رقدة طويلة، حتى أنني أصبحت أتشكك في بعضها، هل هو ذكرى مستعادة أم خيال مستجدّ؟

 

حين لم أجد إجابة على أسئلتي لبعض من في الجوار عن مصير "معرض الكتاب" وتاريخ وأسباب إغلاقه، دخلت إلى محل العصير المجاور الذي كانت أمي تحب اصطحابي إليه لنشرب فيه كوبايتين عصير جزر، لم تكن عصّارات الجزر قد أصبحت متاحة في البيوت بعد، ثم نذهب لنقضي مشاويرنا في وسط البلد، ونمر عليه في طريق العودة إلى البيت لنشرب كوبايتين عصير قصب، حزنت لأني لم أجده محافظاً على مستواه مع أنه احتفظ بنفس ديكوره، قبله كنت قد اختبرت مستوى المحمصة التي على الناصية فوجدتها لا تزال متماسكة، نظرت إلى "محل" ماكدونالدز الواقع بالمعنى المهين للوقوع في الناحية المقابلة للمعرض، وفشلت في تذكر اسم مطعم الكبدة العظيم الذي كان يقع مكانه.

 

رأيت زحاماً لم أتبين سببه، اقتربت فوجدت سيدة خمسينية صبغت شعرها بلون أصفر خراوي، مشتبكة في خناقة مع ضابط مرور عرقان، لأن ونش المرور هم بحمل سيارتها بعيداً عن المكان، وحين انفجر فيها الضابط بوصلة سباب محسوب، غيرت لهجتها الحادة وبدأت تتحدث بنبرة معاتبة متغنجة: "ليه بس كده يا باشا، ده احنا معاكو بروحنا ودمنا، وبنحب الجيش والشرطة وانتخبنا السيسي وعينينا ليكو"، والكلمتان الأخيرتان كان لهما مفعول السحر أكثر من بقية كلماتها، فقد مال الضابط نحوها بتودد، وقال لها شيئاً كركعت بعده في الضحك فجأة، وضربت كفها بكف الضابط العرقان الضاحك، لم أعرف ما الذي قاله لها ولا كيف زال تجهمه سريعاً، ولا لماذا وقف كل هؤلاء الناس وأنا منهم لمراقبة المشهد الذي سادته حالة من العهر العرقان، حالة محسوسة لكنها غير ملموسة، كأنها مجاز متقن في قصيدة شاعر شاطر، مجاز لم يخدشه إلا ما قاله شاب عابث لزميله وهو يموت من الضحك: "بص يا له على نِمرة عربيتها"، لأنظر إلى لوحة السيارة فأجدها مكونة من عدة أرقام تجاور أحرف: ( م ص ي)، فشاركت الزميلين ضحكهما، ومشيت لا ألوي على شيء.

 

لم تكن تلك جولة لشراء الكتب، بل كانت جولة وداع لم أكن أدري هل سيكون مؤقتاً أم دائماً، ولم أكن في مقام التفجّع على أحوال
لم تكن تلك جولة لشراء الكتب، بل كانت جولة وداع لم أكن أدري هل سيكون مؤقتاً أم دائماً، ولم أكن في مقام التفجّع على أحوال "اسكندريتي"، فقد نبذت التفجّع بعد ابتذاله وتحوله إلى طقس فولكلوري غير مقترن بأي أفعال جماعية للمقاومة
 

بعد خطوات قليلة كنت قد رأيته وبدأت في متابعته وهو يواصل سيره في شارع صفية زغلول، كان منظره العام يوحي بتجاوزه الستين منذ فترة، يرتدي بدلة صيفية كالحة لكنها نظيفة، ويضع على رأسه طاقية بيضاء من التي نسميها "طاقية حج"، ويحمل على كتفه سلّماً خشبياً صغيراً، وفي يده لفة أسلاك و "عِدّة تليفون" قديمة سوداء، ظننته في البداية ينقل السلم من محل لآخر، لكنه ظل مستمراً في المشي ببطء، وهو يحمل سلّمه بحذر وعناية، كأنه يحمل خشبة خلاصه، بعد تردد اتجهت إليه وسألته بتودد: "مش عايز مساعدة يا حاج؟"، كنت أتمنى أن يتيح لي فرصة مساعدته، ولو حتى لآخذ راحتي في سؤاله عن أسباب حمله للسلم في تلك الظهرية الحارة، لكنه نظر إليّ باستعلاء شديد وقال "لا شكراً يا سيدي"، ثم استمر في مشيه الوئيد.

 

عبرت إلى الرصيف المقابل، وظللت أرقبه وهو يسير متحاملاً على تعبه، حتى وصل إلى موقع سينما ريالتو المأسوفة على شبابها، والتي كانوا قد هدموها قبل فترة وجيزة، وسوّروا مكانها ووضعوا لافتة تعلن عن مشروع بناء (مول) كبير، وقف العجوز أمام محل مغلق، ووضع سلمه على الأرض، وأخذ ينظر إلى باب المحل المغلق وهو يلتقط أنفاسه، كان يبدو عليه التعب الشديد، مر بجواره شاب أصلع وطبطب على كتفه بود من يعرفه، وقال: "ربنا يقويك يا حجيجة"، فهز رأسه بقرف دون أن يرد، ليقترب منه صاحب فرشة الجرائد القريبة ويقول له "معلهش يا ابويا أصل الحاج قفل النهارده عشان عنده حالة وفاة بعيد عنك"، فضرب العجوز كفاً بكف، وحمل السلم على كتفه من جديد، واستدار عائداً من حيث أتى.

 

لم أتمكن من مغالبة فضولي، فاتجهت نحوه وقد وقف ينتظر فتح الإشارة المجاورة لمقهى السلطان حسين، وقلت بنبرات واثقة: "ما تيجي تريّح رجلك شوية يا حاج، وبعدين كمل مشوارك، تعال نشرب شاي سوا، أنا زي ابنك ما فيهاش حاجة"، كان التعب قد تمكن منه، فنظر إلى المقهى الذي يتنكر خلف لقب وهيئة كافتيريا، وقال بصوت محشرج: "بس مش هيدخلوني بالسلم"، فرحت برده واعتبرته بداية مشجعة، وقلت بحماس: "ما حدش يستجري يقولك بِم، ده إنت تنور القهوة كلها"، ولحسن الحظ لم يخذلني جرسون القهوة الذي كان يعرفني، وحين حاولت أنا والجرسون مساعدته في حمل السلم ونحن ندخل، أشاح بيده وواصل طريقه نحو كرسيه المختار، وأسند السلم إلى الحائط، وحين سألنا الجرسون عما نطلبه، طلب طبق مشمشية، فطلبت زبادي خلاط، وربما لأنه شعر بأنه بالغ في استبدال المشمشية بالشاي، فقد بدأ في الحكي فور أن استراح، وقبل أن ينتهي الوقت الذي ظننته كافياً للراحة قبل أن أبادره بالسؤال عن قصته. 

 

حين سألته إذا ما كانت سلالم كوم الدكة العالية تتعبه، حين يصعدها حاملاً سلمه وهو عائد إلى البيت، قال باستهانة لا تخلو من تفاخر بصحته، إن السُلّم صار مع الوقت جزءاً من كتفه

كان قد طلع على المعاش من مصلحة التليفونات قبل تسعة سنوات وشوية، قبلها ظل لعقود "يخدم" في السنترال القريب من محطة مصر، وعبر سنوات خدمته احتفظ بعلاقات طيبة مع كثير من أولاد الحلال، الذين كانوا يتصلون به حين تتعطل هواتف محلاتهم ومنازلهم، بدلاً من الاتصال بالمصلحة، التي صار اسمها الشركة المصرية للاتصالات، وصار لها خط ساخن ومركز خدمة عملاء وموسيقى انتظار مزعجة، ومع ذلك ظل أولاد الحلال يفضلون خدمة عم محمود، ويعطونه ما فيه النصيب حين ينجز المصلحة، في البدء قال لي إنه يسكن في حي كوم الدكة الذي يقع في تلة عالية في وسط اسكندرية لم تكن بعيدة عن مكاننا، وحين قال بعد قليل أنه بعد أن ينهي المشمشية سيأخذها مشي حتى شارع السبع بنات، ظننت أنه قلق من أسئلتي، ولذلك قرر تمويه مكان سكنه، لكنه بعد قليل أزال اللبس، حين قال إنه يخرج من بيته في كوم الدكة كل صباح، ليحمل السلم والعدة، ويسعى على رزقه، إن اتصل به من يطلب إصلاح تليفونه ذهب إليه، وإن مر على محل به مشكلة في الكهرباء قام باللازم، وإن لم يجد أحداً يحتاج إلى خدماته، لم يعدم من يصبح عليه بساندوتش أو سيجارة أو كوباية شاي أو طبق كشري، ويظل مستمراً في سرحانه على الرزق، حتى يصل إلى بيت ابنته في السبع بنات، فيأكل عندها ما فيه النصيب ويشرب الشاي ويلاعب الأحفاد، ثم يعود إلى بيته بعد أن يصلي المغرب، إما مشياً إن كان مزاجه رائقاً، أو بمواصلات إن نكّد زوجها عليه.

 

حين سألته إذا ما كانت سلالم كوم الدكة العالية تتعبه، حين يصعدها حاملاً سلمه وهو عائد إلى البيت، قال باستهانة لا تخلو من تفاخر بصحته، إن السُلّم صار مع الوقت جزءاً من كتفه، كأنه عصا يتوكأ عليها في مشيه، ليقودنا الحديث إلى الإكليشيهات العقيمة المحببة عن جيل السمنة البلدي المتربي على الغالي وجيل الفراخ البيضاء المعمية بالهرمونات، ثم ينعطف بنا الحديث لا أدري كيف، نحو تفسيرات لاسم كوم الدكة، فيقول أعجب تفسير سمعته على الإطلاق.

 

كانت التفسيرات المتداولة لاسم الحي تنقسم إلى ثلاثة أقسام، أضعفها يرى أن المكان كان اسمه في الأصل (كوم الديكة)، لأنه كان يشهد أكبر مسابقات لصراع الديوك الهندية في اسكندرية، ليتم تحريف الاسم بعدها فيصبح كوم الدكة، ويرى أطرف التفسيرات وأعبطها أن الاسكندر الأكبر باني الاسكندرية كان لديه قصر منيف في تلك المنطقة، وكان يحب الجلوس فيه على دكّة مصنوعة من أفخر أنواع المجوهرات، وقبل سفره إلى غزوة جديدة، استدعى مهندساً سكندرياً وكلفه ببناء مخبأ يضع فيه كنوزه الثمينة وعلى رأسها تلك الدكة، ثم قام بقتل المهندس ودفنه في المخبأ لكي لا يصل إلى مجوهراته أحد، أما أقوى تلك التفسيرات فكان يقول أن التل الذي بنيت عليه المنطقة لا علاقة له بالاسكندر الأكبر أصلاً، لأنه نشأ من مخلفات حفر ترعة المحمودية ودكّ بعض المناطق القديمة المحيطة بها، ليحمل المكان اسم كوم الدكة نسبة إلى ما تم دكه وحفره.

 

لكن كل تلك التفسيرات تضاءلت إلى جانب تفسير عم محمود الذي قال إنه سمع من جده نقلاً عن جد جده، أن الاسكندر الأكبر عليه ألف رحمة ونور، أحب بنتاً من بنات التل، حين رآها خلال تجواله في المنطقة التي كان يقع قصره على أطرافها، فعشقها وتزوجها في السر لكي لا يغضب أم عياله، وبنى لزوجته بيتاً جوار بيت أهلها، وظل يتردد عليها في السر، لكن زوجته التي كان يخاف منها لأنها تعرفه من أيام الفقر والكفاح، قامت بفضح سره وضبطته في بيت زوجته السرية، وجرّته من دكّة لباسه في الشوارع، وهي تشهد أهل الاسكندرية على نقصه وقلة أصله، فاضطر لقتل زوجته الجديدة إرضاءاً لأم العيال، وترك الإسكندرية بعد أن أصبح لا يقوى على وضع عينه في عيون أهلها، ليتم تسمية المكان الذي شهد تجريسته باسم كوم الدكة.

 

صارحني أن رحيل زوجته هو الذي دفعه لاتخاذ قرار البقاء برغم مخاطره، لأنه أصلاً لم يعد يطيق صحبتها في البيت، لأنها بعد أن تمكنت منها الأمراض وأعجزتها السمنة عن الحركة، أصبحت تجد راحتها في شتمه ولعن سنسفيله
صارحني أن رحيل زوجته هو الذي دفعه لاتخاذ قرار البقاء برغم مخاطره، لأنه أصلاً لم يعد يطيق صحبتها في البيت، لأنها بعد أن تمكنت منها الأمراض وأعجزتها السمنة عن الحركة، أصبحت تجد راحتها في شتمه ولعن سنسفيله
 

كانت حكايته العجيبة عن دكّة لباس الإسكندر، أكثر معقولية من حكايته عن أحوال بيته ذي الأدوار الخمسة الذي يسكن فيه وحيداً منذ عامين، بعد أن تصدع البيت وأصبح آيلاً للسقوط، لأن شاباً ممحوناً من سكانه، قرر وهو يقوم بتوضيب شقته للزواج، أن يستجيب لدلع عروسة المستقبل، فيقوم بفتح مطبخ الشقة على باقي الشقة، ليصبح لديها "مطبخ أمريكاني"، كالذي رأته في بيت زميلتها الموظفة في شركة الزيوت المستخلصة، ولأنه كسائر شباب هذه الأيام "دلدول عديم الشخصية"، فقد فعل ذلك دون أن يستشير أحداً من السكان، ممنياً نفسه بأن تكون بسطة المطبخ محلاً لألعاب شهوانية مشروعة، فكانت النتيجة أنه وصنايعيته الحمقى تسببوا في تصدع البيت وتشريد سكانه، باستثناء عم محمود الذي أقسم أنه لن يغادر البيت مهما حصل، حتى بعد أن غادرت زوجته لتقيم لدى ابنها العامل في حي السيوف البعيد، والذي كانت شقته ومرارته أوسع من شقة ومرارة أخته.

ولتفسير عبارته الأخيرة، صارحني أن رحيل زوجته هو الذي دفعه لاتخاذ قرار البقاء برغم مخاطره، لأنه أصلاً لم يعد يطيق صحبتها في البيت، لأنها بعد أن تمكنت منها الأمراض وأعجزتها السمنة عن الحركة، أصبحت تجد راحتها في شتمه ولعن سنسفيله، حتى صار مسخرة الشارع كله، بسبب ما تطلقه عليه من شتائم تتفنن في ابتكار الجديد منها كل يوم، وهو ما كان يضطره لتأخير عودته إلى البيت قدر الإمكان، لأنه لا يحب أن ينام بعيداً عن فرشته، ثم قال وقد أضاء وجهه بضحكة طفولية، أنه لكي يرتاح من سماع صوتها، قام بفصل التليفون عن الشقة، لأنها ظلت تتصل به بعد رحيلها لكي تسمعه أحدث نتاج لسانها الزِّفر، وأنه كلما نقلت له ابنته رسائل أمها بضرورة إصلاح التليفون لتتمكن من الحديث معه، يطلب منها إبلاغ أمها بأنه يحاول دائماً الاتصال بالسنترال لإصلاح التليفون، فلا يرد عليه أحد من موظفي خدمة العملاء الذين لم يعد يعرف منهم أحداً.

 

حين انتهى عم محمود من المشمشية، عرضت عليه دور شاي، فقفز من مكانه حين وقعت عينه على ساعة الحائط، وقال لي إنه سيأخذها جرياً إلى بيت ابنته، لأنها وعدته بصينية رُقاق على الغداء، لكنه لم يغادر إلا بعد أن تأكد من تسجيلي لرقم هاتفه المحمول، ليقسم بالأيمان المغلظة أنه سيختصمني أمام الله، لو سمحت لأحد غيره بإصلاح تليفوني، وحين قلت له أنني لم يعد لدي شقة في الإسكندرية، قال لي بيقين: "بكره ربنا يرزقك"، ومضى حاملاً سُلّمه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.