شعار قسم مدونات

جحيم الغوطة.. مأساة عبر التاريخ

blogs دمار سوريا

تؤرقني تلك المشاهد والصور التي تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي ومصدرها الغوطة، فهي تحكي مأساة شعب تخلى عنه الجميع، شعب بات يقتل ويسحق في كل يوم وكل مكان وأي زمان، لا ذنب له إلا أنه وقع في رقعة جغرافية لم تطمع بها أمريكا لتزعم نصرته، ولم ترغب فيها تركيا لتقوم بنجدته، وكانت هذه الرقعة الجغرافية بعيدة عن حدود الدول العربية، لذلك لا يهم إن مات أفراده أو قتلوا أو حُرِّقوا، فأصواتهم لا تزعج وتنفّر الإبل في تلك المنطقة. 

تاريخيا قاومت الغوطة الاحتلال الفرنسي، حيث أوجعت ضرباتها الفرنسيين، مما تسبب برد فرنسي بقصف عنيف استهدف دمشق وريفها والغوطة في عام 1925، لعله لم يوقع نفس أعداد قتلى اليوم، ليس لأن الفرنسيين أكثر إنسانية من الأسد ولكن بسبب صغر وبدائية قنابلهم في ذلك الزمان مقارنة بقذائف هذا الزمان المتطورة. لذلك فالغوطة مذبوحة تاريخيا وإن اختلف الذابح واختلفت الحجة. 

إنه ومنذ انطلاق الثورة السورية والتي تزامنت مع ثورات أخرى في بلدان أخرى مثل مصر وتونس وليبيا، عانت مناطق وبلدات سوريا من قصف استهدف اليابس والأخضر، أدى لمقتل أكثر من نصف مليون إنسان غالبيتهم من الأطفال والنساء، والغالبية الساحقة منهم مدنيون قتلوا وهم نيام بسبب القصف، واستخدمت ضد هذا الشعب أسلحة محرمة ومتطورة أوقعت في ثناياه الكثير من الألم، ألم لم يعرف له مثيل، تترجمه نظرات طفل يحاول أن يجمع شتات أفكاره البريئة عما يحدث من حوله وقد استخرج توا من تحت الركام، ونظرات أمهات أصبحن ثكالى بين لحظة وأخرى وهن يودعن أطفالهن بأجسامهم البريئة التي اخترقتها شظايا الصواريخ والقنابل المحرمة دوليا ومزقتها إلى اشلاء.

 

الثورة السورية كشفت الستار عن الكثير، حيث علمت الشعوب أنه إذا الشعب يوما أراد الحياة، عليه أن يعي جيدا أنه ليس بالضرورة أن تستجيب له الأقدار، فالأمر منوط بمدى توافق أحلام وتطلعات الشعب مع مصالح الدول العظمى

ولا يعرف أطفال سوريا ما ذنبهم ولماذا يقتلون، لم تسعفهم أظافرهم الناعمة وملامحهم البريئة من تجنب التعرض للقتل يوميا وبأبشع الطرق، لا أعرف ما هو شعور الطفل المستنشق للكيمياوي حينما تعجز رئتاه الصغيرتان عن أن تمده بالهواء، علّه ظن أن هواء وطنه قد نفد، وقبلها استدرك أنه لا يمتلك حتى وطنا، ذنبه أنه يعيش في منطقة لا تقع على ممر أنبوب غاز يؤدي للبحر، ولا تحتوي منطقته آبار نفط قد تجلب الطامعين ليدافعوا عنه بضمير حي.

لا أعرف كيف تقاس جرائم الأنظمة الدكتاتورية وما هي وحدة قياس تلك الجرائم، حتى اليوم أعجز عن مقارنة جرائم القذافي بحق الشعب الليبي بما ارتكبه بشار الأسد، وما الذي اقترفه القذافي أكثر من بشار، لا بد من أنه اقترف ذنبا عظيما جعل نشوة الطائرات التابعة للتحالف الدولي، وفي طليعتها الطائرات الخليجية وفي مقدمتها الطائرات الإماراتية، تقذفه وتدمر جيشه ودولته ليموت رفسا بالأقدام في غضون فترة وجيزة أقل بكثير، بل حتى إنها لا تقارن بالفترة التي قضاها بشار بحربه ضد الشعب السوري.

وبهذا فإن الثورة السورية كشفت الستار عن الكثير، حيث علمت الشعوب أنه إذا الشعب يوما أراد الحياة، عليه أن يعي جيدا أنه ليس بالضرورة أن تستجيب له الأقدار، وقد لا ينكسر قيده، وحتى ليله قد لا ينجلي، فالأمر منوط بمدى توافق أحلام وتطلعات هذا الشعب مع مصالح الدول العظمى، ولهذا يجب أن نعيد التفكير باختيار أوطاننا من جديد، والمواصفات هذه الأيام أن يكون وطنا لا توجد فيه أطماع تاريخية، فالذي يحدث اليوم هو امتداد للماضي سواء شئنا أم أبينا. كذلك يجب أن نختاره وطنا بعيدا عن حرب الاقتصادات المدوية، ويجب أن لا نطمع ببئر نفط ولا أنبوب غاز علها تنقلب نقمة على أكنافنا، لأنها تجلب الطامعين كما تجلب الحلاوة الذباب.

أما على صعيد أرض الغوطة فقد ازدادت معاناة أهلها تدريجيا، فبداية المعاناة كانت حينما أحكم النظام حصارها وإحكام الطوق عليها، إلا أن أهلها تمكنوا من التكيف مع حالة نقص الإمدادات من خلال الزراعة والإنتاج الذاتي، وبسبب اقتتال الفصائل المعارضة، خصوصا تنظيمي داعش والنصرة والفصائل الكردية التي شتت رؤى المعارضة السورية ومعها تشتت تطلعات الشعب السوري وأضعفت قوته وانقلبت المعادلة، فالغوطة التي لطالما هددت مضاجع النظام السوري في دمشق، باتت اليوم مهددة بعد أن تمكن النظام من إسقاط بعض مناطقها بعد أن قسمها إلى قسمين: غربية وشرقية.
 

مأساة سوريا أصبحت عبرة لبقية الشعوب كونها إما أن تُحكم تحت سطوة هذه الأنظمة المستبدة أو أن تكوى بتلك النار التي أحرقت السوريين وقراهم ومدنهم وحاراتهم
مأساة سوريا أصبحت عبرة لبقية الشعوب كونها إما أن تُحكم تحت سطوة هذه الأنظمة المستبدة أو أن تكوى بتلك النار التي أحرقت السوريين وقراهم ومدنهم وحاراتهم
 

ويبدو أن النظام السوري ضرب الغوطة هذه المرة بكل ما أوتي من قوة لسببين، أولهما أنه أمن العقاب فأساء الأدب واستهتر بدماء الشعب السوري، والسبب الثاني هو أنه يريد أن يستعيد الغوطة ويبعد خطر المعارضة عن دمشق بزمن قياسي قصير، ولذلك فهو يفرط في استخدام القوة، وللأمانة لم يحسب النظام ولا المجتمع الدولي ولا غالبية الفصائل -خصوصا المتطرفة- ولا الفصائل الكردية، أي حساب لحرمة دم الشعب السوري كونه بات دما مستباحا يسفكه القاصي والداني.

يجب أن يعي الشعب السوري والشعب العربي والإسلامي أن حجم الكارثة التي يتعرض لها السوريون برغم عظمها، إلا أنها لم تلق أي صدى في الأطراف العالمية، كون الجميع أصبح مستفيدا من حمام الدم هذا، فالأنظمة العربية استفادت بالدرجة الأساس كون هذه المأساة أصبحت عبرة لبقية الشعوب كونها إما أن تحكم تحت سطوة هذه الأنظمة أو أنها ستكوى بتلك النار التي أحرقت السوريين وقراهم ومدنهم وحاراتهم، ولا تستغربوا فهذا الأمر يعتبر بمثابة الشغل الشاغل لتفكير الأنظمة العربية. ودوليا فكل دولة وقوة تسعى لأن تضع لها موطئ قدم في مناطق يبدو أنها تقاسمتها من خلف الستار، فأمريكا مثلا سيطرت على دير الزور النفطية، وتركيا تحاول السيطرة على مناطق تتبع لها تاريخيا، ولو أنها أخلت بالتزاماتها في مناطق أخرى كحلب مثلا، حيث كان عليها أن تنقذ تلك المدينة أسوة بإيران التي قدمت بكل قوتها تحاول أن تنقذ ما يسمى المقدسات الشيعية، ولو أن حجة تركيا ونفوذها والرابطة التي تربطها بحلب أقوى بكثير من الحجة الإيرانية. وكذلك فرنسا وبقية الدول الاخرى.

وقد فضحت ممارسات تلك الدول بأنها تستميت في الدفاع عن منطقة ما وتتناسى الدماء التي تسيل في أخرى بالرغم من وحدة دماء الشعب السوري، ومن تلك الممارسات عمليات التغيير الديموغرافي ومحاولة تغيير ملامح المناطق الثقافية والدينية والحضارية، وكأنهم يريدون أن يخلقوا سوريا جديدة تختلف عن سوريا ما قبل الثورة.

أما من وجهة نظر شخصية فإن ذلك الأمر يعزى لسبب، وهو تغيير خارطة القوة بين العام 1916 وهو تاريخ نشوء اتفاق سايكس بيكو، حيث كانت فرنسا وبريطانيا القوتين المهيمنتين على المنطقة في ذلك الزمان، أما اليوم فقد تولدت قوى عالمية اخرى مثل أمريكا وروسيا، وأخرى إقليمية مثل تركيا وإيران، يراد إشراكهم جميعا في تقاسم سوريا من جديد بعد اندثار مخطط سايكس بيكو القديم، لذلك فالجميع شريك في هذه الجريمة. ومن دروس حصار المناطق الأخرى أنه أصبح معلوما أنه ستُرتكب جرائم بحق الأبرياء لينتفض المجتمع الدولي ويدعو لتغيير ديموغرافي تحت مسمى "إجلاء المدنيين الأبرياء"، وهذا هو الأمر المنشود من الجريمة أصلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.