شعار قسم مدونات

بين الفعل وردة الفعل.. الغوطة مثلا!

blogs الغوطة

قبل بضعة أيام حضرت اجتماعا مع ثلة من "السوشيالجية" للحديث عن السوشيال ميديا وتعاملها مع قضايا الأمة المحورية. وأكثر ما علق في ذهني يومها تعليق الأستاذ رائد سمور -وهو خبير في أمن المعلومات- حين قال عما يحدث في كل مرة تحدث مصيبة تزلزل الأمة ومشاعرها وطريقة تعاطينا معها على السوشيال ميديا -كما يحدث الآن في الغوطة على سبيل المثال- وكان تعليقه: "ما يحدث معنا دائما في وسائل التواصل الاجتماعي هو ردة فعل وليس فعلا"، مع كل مصيبة تجد اللطم والاستجداء والبكاء في أوجه. ثم بعد أن يهدأ القصف وتنتهي المحنة نعود إلى حياتنا وتبرد قلوبنا وكأن شيئا لم يحدث. 

في الفترة الأخيرة صرت أعتقد أن ما يحدث في العالم هو فعل وردة فعل. والسبب أنه لا شيء يتغير حقيقة على أرض الواقع. وأظن أننا وصلنا إلى مرحلة متقدمة من الجنون، وصار يعيش بين أظهرنا من يستلذ بشماتة بالدم والقتل والموت وصناعة الألم. صرت أعتقد أن البعض يصنع هذا الموت حتى يستلذ بمتابعة مسرحية المشاعر التي يعيشها العالم، بين الشجب والندب والاستنكار والكثير من البكاء والعويل، والكثير الكثير من البوستات والتويتات التي تساهم فقط -أحيانا- في زيادة لذة بعض المجانين.

هل هذا يعني أن علينا أن نصمت إزاء كل هذه الوحشية والعنجهية، هل علينا أن نصمت أمام كل هذا الموت والقتل الوحشي؟ ألم يقل رسولنا الكريم إن أضعف الإيمان أن تغير المنكر بيدك فإن لم تستطع فبلسانك فإن لم تستطع فبقلبك وذلك أضعف الإيمان. هل علينا أن نلعب كل مرة دور فئة "أضعف الإيمان" وحتى متى! اسمحوا لي أن أخبركم نظريتي البسيطة عن الفعل وليس ردة الفعل التي ينبغي أن تصبح واقعا، وقبلها دعوني أخبركم ماذا يحدث معنا في العادة:

في الوقت الذي كنت أكتب فيه هذه الكلمات وقلبي يعتصر ألما، وفي الوقت الذي تقرأ أنت فيه هذه الكلمات وقلبك يعتصر وجعا لا يطاق، الآن في هذه اللحظة في الغوطة وغيرها يقتل العشرات ويجرح المئات

سأبدأ من آخر حدث عشناه ونعيشه حاليا، ألا وهو قصف الغوطة ومجازر الغوطة. قبل يومين انتشرت صور المجازر في كل وسائل التواصل الاجتماعي. ووصلت الصور والفيديوهات وكانت دامية، موجعة، قاسية حد الموت وأكثر. كانت الصور تعكس -كالعادة- وحشية شيطانية مفرطة، كأن الذي أعطى أمر القصف والذي قام به قد تجرد من كل معاني وأشكال وصفات وسمات الفطرة والإنسانية، حتى بأبسط أشكالها. كأنه وحش بري بلا قلب ولا عقل ولا حتى منطق أو مشاعر.

 

الصور تجعلك تريد أن تنفجر وتفجر هؤلاء الأشرار معك. بل وأن تبيدهم عن بكرة أبيهم حتى تتخلص من شرهم للأبد. ثم وأنت تطالع هذه الصور تتخيل أرطغرل أو السلطان عبد الحميد أو محمد الفاتح أو أيا من الشخصيات البطولية التي نشاهدها ونتابعها، وتبدأ بتخيل أنك هم، أو أحد الأشخاص الذين في صفهم وأنك صرت معهم تخطط للانتقام والثأر ونصرة هؤلاء المساكين! ثم تصحو يا صديقي من حلمك الوردي وتجد أنك ما زلت على كرسيك أو سريرك، أخذتك الحماسة ولا تمتلك إلا بضع صفحات على السوشيال ميديا يوجد بها بضعة أشخاص ليس لهم من الأمر شيء.

 

ثم تمسك جهازك وتفتح شاشتك وتذهب إلى تويتر وتضغط خانة "أضف تدوينة" أو إلى فيسبوك لتجيب عن سؤاله المستفز اليومي: "بماذا تفكر اليوم؟". أو إلى السناب شات أو إنستجرام أو حتى لينكد إن، حتى تبين للناس أنك من منبرك هذا تريد أن تلقي خطابا كالخطاب الذي ألقاه صلاح الدين أو محمد الفاتح، أو حتى الممثل الأمريكي ألبتشينو في فيلمه الذي لعب فيه دور مدرب فريق سلة قبل الذهاب إلى المباراة الأخيرة. من أجل ان تلهب حماس متابعيك وتشاركهم شعورك بالذنب والعجز والألم. 

ثم تضغط بكل قوتك وعزمك واستنكارك لتكتب بيانك. وتعلن بكاءك وألمك وحرقة قلبك على كل هذا الموت والدمار الذي تشاهده عيناك -وهي بالمناسبة مشاعر نبيلة لا يعيشها ولا يشعر بها الا النبلاء في زمننا هذا- وما إن تنتهي من كتابة بيانك وتضغط على زر النشر، حتى تعيش شعور شخص كان تحت الماء بلا نفس لـ60 ثانية ثم صعد فوق السطح ليتنفس بعد أن فرغ منه الأكسجين وكاد يهلك. فيأخذ نفسا عميقا على شكل شهقة مدوية، ويعود بعدها نفسه ونبضه إلى حالته الطبيعية بعد أن كاد يختنق..

وينتهي المشهد بانتظارنا لكمّ التعليقات والإعجابات أو الريتويتات على البيان الذي أعلناه. وإذا صادفك متعاطف مع العدو وبدأ بالحديث معك لتبرير الجريمة، وبدأت بالدفاع والسب واللعن والبلوكات، وربما استفزك لإصدار بيان آخر للتحذير من هذه الشرذمة الضالة المضلة -وهم كذلك- فإنك ستشعر بنفس النشوة وسعادة النصر التي شعرت بها وأنت تشاهد أرطغرل حين صفع أورال صفعة أنسته حليب أمه، حين نجا من الإعدام وخرج متبجحا متباهيا بنجاته -حلقة تستحق المشاهدة بالمناسبة-.

وبعد ساعة يضيع البوست الذي كتبته بين عشرات ومئات الكلمات على صفحات السوشيال ميديا. لتكمل جولتك بعدها ثم تغلق شاشتك وتخلد إلى النوم أو تذهب إلى العمل، أو ربما تخرج في مظاهرة أو اعتصام وتعود إلى حياتك. وربما سيبقى في قلبك بعض الألم وبعض الغصة أن هذا هو أقصى ما فعلت -وهذا ما ينبغي أن يحدث- ولكن كما يقولون.. اليد قصيرة والعين بصيرة.

إذا ما الحل؟ هل مطلوب مني ما هو أكثر من ذلك؟

كل ما سلف هو مجرد ردة فعل، وبالرغم من أهميتها إلا أنها لا تسمن ولا تغني من جوع. في الوقت الذي كنت أكتب فيه هذه الكلمات وقلبي يعتصر ألما، وفي الوقت الذي تقرأ أنت فيه هذه الكلمات وقلبك يعتصر وجعا لا يطاق، الآن في هذه اللحظة في الغوطة وغيرها يقتل العشرات ويجرح المئات ويشرد الآلاف ويظلم الملايين حول العالم.

إياك أن تقبل بأن تكون معهم، وأرفق مع كل ردة فعل لك فعلا يغير شيئا فيك وفي حياتك حتى تمتلك أسباب التمكين والنصرة مستقبلا!
إياك أن تقبل بأن تكون معهم، وأرفق مع كل ردة فعل لك فعلا يغير شيئا فيك وفي حياتك حتى تمتلك أسباب التمكين والنصرة مستقبلا!
 
ما الحل اذا ماذا ينبغي ان نفعل؟

هل نترك الأمور كما هي؟ هل نكتفي بالدعاء؟ هل علينا ألا نفعل شيئا؟ الجواب لا، ما علينا أن نفعله هو فعل يغير كيميائية وفيزيائية وحتى رياضية حياتنا، ويبدل أدوار اللعبة التي نعيشها والتي تُلعب علينا. ما يجب أن نفعله يجب أن يكون ردة فعل يلحقها فعل. لذلك يا صديقي ركز معي بقلبك وعقلك فيما سأقول:

أولا: دعونا سويا وجميعا نفعل كل ما ذكر فوق كبداية. دعونا نكتب ونوثق كل ما يحدث في الغوطة وغير الغوطة. "خلوا النايم يصحي والجاهل يعرف والغايب طوشة يحضر". دعونا نلعب دور المسحراتي الذي يوقظ الناس قبل الفجر للسحور. دعونا نوقظ النائمين بيننا حتى "نصحصح سوى"، حتى يعلم القريب والبعيد حقيقة ما يحدث حوله. وستصعقون من حجم الناس الموجودين حولنا والذين لا يعلمون شيئا عما يحدث في الغوطة وغير الغوطة. فهناك نسبة ليست بسيطة في مجتمعاتنا أعظم همومها ما ستأكل وما ستشرب اليوم.

ثانيا: في المرحلة التي تلي مرحلة الاستنكار والشجب والبكاء، دعونا ننتقل للفعل. ماذا يمكن أن أفعل على المستوى الفردي لنصرة المستضعفين في الغوطة وغير الغوطة؟. هذا الحدث المؤلم الذي شاهدته يجب أن يتحول إلى ألم مزمن يرافقك طول العمر. إلى صداع يوقظك كل يوم، يدفعك لتناول الدواء والعمل. هذا الألم يجب أن يتحول إلى دافع ليجعل منك إنسانا قادرا على النصرة الحقيقية. قادرا على امتلاك سلطة حقيقية على أرض الواقع لتكون عونا.

يجب أن يتحول هذا الألم إلى أمل يحركك للبناء والعمل لتصبح أقوى ولتصبح أقدر على صناعة التمكين. قاطع منتجات كل من آذى شعرة من شعر إخوانك المظلومين، ستقول لي لا طاقة لنا على مقاطعتهم، سأقول لك إذا خذ زمام المبادرة وأوجد لنا البديل حتى نقاطع. سأقول لك قاطع ولو كنت ستموت من الجوع. ستقول لي كيف ستؤثر بضع ملاليم أمام ملايين تأتيهم من غيري. سأقول لك ملاليك على ملاليمي على ملاليم من حولنا هي الملايين التي تدعمهم. وهذا يا صديقي أضعف الايمان. 

الألم الذي لا يتحول إلى أمل يا أحبائي يؤكد لنا أننا قادرون على تغيير المستقبل، وقادرون على أن نصبح أقوى، وقادرون على أن نمكن أنفسنا أكثر، هو ألم الخانعين البائسين. لذا إياك أن تقبل بأن تكون معهم وأرفق. مع كل ردة فعل لك يتغير شيئ فيك وفي حياتك حتى تمتلك أسباب التمكين والنصرة مستقبلا!.. حمى الله الغوطة وأطفال الغوطة ونساء ورجال وشباب الغوطة والمستضعفين في كل مكان..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.