شعار قسم مدونات

الحياة بفصولها الأربعة!

blogs - man
تتغير الفصول وتتعاقب فصلا تلو الآخر؛ يزهر الربيع فتغني البلابل، تغازل الفراشات بعضها، تتمايل المروج الخضراء وينساب بين خصرها الزهر الندي، ثم يشتد غضب الشمس ليعلن الصيف احتقانه فيلتهب الكون، وما يلبث أن يحتضر فيأتي الخريف كئيبا متجهما ينثر غباره هنا وهناك، تذبل الحياة ويصفرّ الكون، ثم يستهل الشتاء الحياة من جديد فيغسل رعب الخريف، ويروى ظمأ البساتين، فتدب الحياة من جديد ليعود الربيع لينقذ بقايا الروح.
   
تنبه الموسيقار فيفالدي إلى روعة الاختلاف هذا، تعاقبه، جنونه، فألف أروع المعزوفات على الإطلاق "الفصول الأربعة"، فدون أن ينطق بكلمة رسم لوحة سمعية تعبق بالحياة والألوان، يمكن أن تنقلك أذناك وأنت تسمعها إلى عالم الفصول، عالما تلو الآخر، فتضحك وتبكي وتصرخ وتتألم وتغفو قليلا، ثم تعود لترقص فرحا..
   

لا يأس مع الله ولا تكبر على نعمه، يعطي فنشكر، ويبتلي فنصبر، يقلّب عباده في النعم والابتلاءات ليختبر القلوب.. فطوبى للصابرين الثابتين الشاكرين

تماما كما تبدو الحياة بفصولها الجوية؛ هي ذاتها بأحوالها البشرية تتقلب في صمت تقلبا يُطال منه الجميع، نمر جميعنا في دهاليز الحياة، نتيه حينا ونسرع الخطى أحيانا، تستوقفنا عثراتٌ مؤلمة، تطالنا أحزانٌ نظن لوجعها أنها باقيةٌ للأزل، وما تلبث أن تغيب كأنها لم تكن، ويطرب قلبنا لأفراح نتمنى لو لا تنتهي، نتخبط في تيه الحياة، ننكسر، نسقط ثم نعود لنقف، نمرض ونشفى، ولكننا إن ضعفنا استسلمنا، وإن قويت شوكتنا تكبّرنا وغرتنا الحياة بغرورها فنفضنا ريشنا وتبخترنا على قدرنا، وكأننا نملك زمام أمرنا أمام الله.

     
ألم يقل جلّ وعلا: "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ"؟ إن الله تعالى يسيّر العباد بأمره، و"مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا"، فالله تعالى سبق بعلمه وقضائه الأمور كلّها، وما أمور العباد بأمرهم دائما، وإنما كل مسيّر ميسّرٌ لما خُلق له، ومن تمام أمر الله أنه يقلّب أحوال العباد؛ فما كل نعمة باقية ولا كل نقمة دائمة، وإنما هي أحوالٌ يذكر بها الله عباده ليمحّص قلوبهم، ويكبت جماح شهواتهم، فلا يذنبون معتقدين أن الله غافلٌ عنهم، ولا يترفون في النعم دون أن يشكروا رب النعم عليها، وإنما الدنيا ساعاتٌ متقلّبة وأقدار متبادلة، فلا الغنى باقٍ ولا الفقر باقٍ، وإنما يختبر الله القلوب ليجزي الشاكرين من فضله ويقوّم الغافلين عن دربه.
   
وكما تتعاقب الفصول نتقلب نحن في أحوالنا، فلا يغترَّ إنسان بحاله، فما صحةٌ باقية ولا غنى أزليّ ولا شباب لا يهرم ولا عملٌ لا ينتهي أجله، ولا ملكٌ يخلّد صاحبه ولا ألقاب أو مناصب نحملها إلى قبورنا، نحن نغادر الدنيا بأيدٍ خاوية وأجسادٍ باردة لنصبح طعاما لدودة الأرض، وإنما هي أعمالنا الباقية خلفنا لتُذكَر، وبصماتنا التي شيدنا بها وعمّرنا في هذا الكون الواسع التي ستنطق من بعدنا. ولأن الله هو الباقي على الدوام، والعبدُ أضعف من أن يدوم له حالٌ في هذه الدنيا، فلا يتكبر إنسانٌ بما آتاه الله من فضله ولا يقنط عبدٌ بما حرمه الله من نعم يشتهيها، فقد: ينعم الله بالبلوى وإن عَظُمت … ويبتلي الله بعض الناس بالنعم.
  
وإنّ تمام شكر الله على نعمه دون التكبرأو التفاخر على العباد الذين لم يرزقهم الله بها، يحفظها ويبارك بها، وإنّ صاحب الجنتين عندما قال لصاحبه المؤمن: "أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً"، متعاليا عليه مستغنيا عن فضل الله ومنّه عليه، أباد الله جنتيه وأهلك ملكه الدنيوي كأنما يقول له: يا عبدي أكرمتك فنسيتني وتباهيت على عبادي، فلأهلكن غرورك، فأنا رزقتك وأنا أحجب عنك ما أريد متى أشاء.
  
وإن نبي الله يوسف عليه السلام أُبعد عن والده واتهم بالسوء وسُجن، وظن إخوته أنهم في ترفٍ ونعمٍ حينما أبعدوه عنهم، ولكنّ تدبير الله فوق ما يتصور العباد، فشاء الله أن يرفعه عزيزا على مصر ويخرّ إخوته له سُجّدا.. لا يأس مع الله "إنَّهُ لا ييأسُ مِن رَوحِ الله إلا القومُ الكافِرون"، ولا تكبر على نعمه؛ يعطي فنشكر ويبتلي فنصبر.. يقلّب عباده في النعم والابتلاءات ليختبر القلوب.. فطوبى للصابرين الثابتين الشاكرين الله في التقلبات، فيسقيهم الله غيث الرحمة والقبول. مهما تبدلت فصول النعم وطال خريف الابتلاء فلا شك أن وعد الله بالفرج سيزهر حتما، والله يصدق وعده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.