شعار قسم مدونات

فخ "الطمأنينة" الفكرية

blogs كتب مكتبة قراءة

بعد تأمل في تفاصيل الحياة وبعض التجارب الحياتية القليلة، قد نلحظ في أي نقاش أو أي مأدبة فكرية بعض النماذج الشاذة التي ترى أن المعرفة ومسلسها منتهٍ لا محالة، ويجب أن يبني الإنسان بالضرورة مكتسبات في حياته الفكرية ذات سمة ثابتة، والأهم أنها غالبا ما تكون غير قابلة للنقاش. فأي مسار يتم اتخاذه لتبني هذه القناعة؟ 

في البداية، يكون الأمر كبحث عن نموذج للاختيار للوصول إلى المعرفة، فتتحدد المعايير أو المقاييس للاختيار، وبالتالي تتشكل القدوة بالتقليد سواء على مستوى السلوك وأيضا على مستوى الأفكار. إنها المعرفة الجاهزة. فيبدأ المسار للوصول إلى النسخة طبق الأصل، الأب يريد ابنا يشبهه تصرفا وقناعة، والأم تريد بنتها كأنها هي، أو العكس.

يعد التساؤل والتشكيك أمرا مقبولا جدا، ويساعد على تطوير الذات وتقييمها. هذا التشكيك مصاحب لمبدأ احترام الرأي المخالف، لأن جعل شيء ما محط تساؤل لا يعني بالضرورة أنه خاطئ

فالبحث عن إجابات وبناء القناعات يحصل غالبا حسب مراجع معروفة سابقا، ولا يجب أن يخرج عن نطاقها. وأي تحول أو تطور يكون وفق هذا البناء الأصلي السابق، وكل خروج عنه قد يكسر الطمأنينة التي تم الحصول عليها في عملية البناء. إنها مرحلة أمان يعيشها الفرد يطمئن لبنائه بكل تفاصيله. لأن تركيب الإنسان النفسي يلزمه أن يعتقد بأمر معين أو أن يحظى بثوابت يقينية يعرف نفسه من خلالها.

لن نختلف إذا قلنا إن هذا الأمر صحي في البداية، فالإنسان لا يمكن له أن يناقش أو أن يبني مواقفه من فراغ، لكن التقليد شيء والتقليد من أجل التطوير شيء آخر. مسلسل البحث عن الحقيقة والبحث في ثنايا المعرفة يحتكم إلى مجموعة من المحددات والشروط، أهمها ومركزها هو البناء. يحدث البناء بالسؤال والتساؤل المستمر واكتساب الهم الفكري المستمر.

قد نشفق على أحدهم ونحن نسمعه يتبنى أفكارا جديدة لم نألفها ويشكك ويتساءل عن أمور نراها من المسلمات أو عن الأمور المؤسسة لإدراكنا واستيعابنا للواقع أو حتى التي تنبني عليها عقيدتنا وإيماننا. قد نعبر بالإشفاق كسلوك نفسي لحماية المكتسب الذي نتوفر عليه والذي يكون غالبا قد جاء من باب الوراثة (ما وجدنا عليه آباءنا)، أو حتى من باب البحث والتساؤل. لماذا نخاف من التساؤل والسؤال؟ لماذا نرفض التشكيك؟ هذا أيضا ما عبر عليه نتشه حينما قال "أحيانا لا يريد الناس سماع الحقيقة لأنهم لا يريدون رؤية توهماتهم تتحطم". 

يعد التساؤل والتشكيك أمرا مقبولا جدا، ويساعد على تطوير الذات وتقييمها أيضا. هذا التشكيك مصاحب لمبدأ احترام الرأي المخالف، لأن جعل شيء ما محط تساؤل لا يعني بالضرورة أنه خاطئ، وحتى تبنيه من طرف الجميع لا يعني أنه صحيح أيضا. وجود هذا المتسائل الجدي مرغوب بشكل كبير، المتسائل الذي يبني آراءه عن علم وبحث رصين، ويسعى لإيجاد تفسيرات جديدة؛ تفسيرات لها أهداف سامية وراقية بعيدة كل البعد عن مبدأ "الانتصار للرأي" أو "إقصاء الآخر" أو حتى "التشكيك من أجل التشكيك فقط"، بل في سياق المواكبة لجديد المعرفة.

الوصول إلى مرحلة الاكتفاء المعرفي غائبة بالأساس في الحياة، وكلما ازداد علم الإنسان ازداد جهله كما قال الشافعي رحمه الله. ازدياد الوعي يزيد الألم والإحساس بالمعاناة، وأحيانا يزيد الرغبة في عدم المعرفة
الوصول إلى مرحلة الاكتفاء المعرفي غائبة بالأساس في الحياة، وكلما ازداد علم الإنسان ازداد جهله كما قال الشافعي رحمه الله. ازدياد الوعي يزيد الألم والإحساس بالمعاناة، وأحيانا يزيد الرغبة في عدم المعرفة
 

لأن البحث يجب أن يكون مستمرا، خصوصا وأن الحقيقة متعددة كما ذكر طه عبد الرحمان. وكل أمر أو فكرة أو قراءة معينة مقبولة ويمكن أخذها بعين الاعتبار في إطار توسيع الأفق وتجميع المواقف. أو كما قال الدكتور علي الوردي "ليس هناك في الكون شيء خير كله أو شر كله.. الإنسان الذي يعيش في مجتمع متحرك لا يستطيع أن يحصل على الطمأنينة". لذا، فالبحث عن الحقيقة مسار غير متناه وغير منته ومستمر للأبد، ويجب أن نستصحبه معنا وأن لا يتوقف. يصير الهم المعرفي آنذاك رغبة وحاجة في نفس الوقت، ويصبح طريقة عيش جديدة تجعل من العقل المحرك الأساسي في التعامل؛ فكل مجال لكسب المعرفة مطلوب ويجب أن يتم استغلاله أبشع استغلال في كل فرصة سانحة. وهناك من يعتبر الأمر من علامات النباهة واستعمال العقل، وقد صورها فاسوديف الهندي بشكل كوميدي في جملته "علامة الذكاء أن تتساءل باستمرار.. الحمقى متأكدون وبشكل قاطع من كل شيء يفعلونه في حياتهم".

الاقتناع بأن الوصول إلى الطمأنينة الفكرية هو الهدف والمراد هو اقتناع تائه وفاقد للحقيقة بعينها، فالوقوع في هذا الفخ؛ فخ الطمأنينة الفكرية، من أوهام المعرفة، فتظن أنك تعرف في حين أنك لا تعرف شيئا. الوصول إلى مرحلة الاكتفاء المعرفي غائبة بالأساس في الحياة، وكلما ازداد علم الإنسان ازداد جهله كما قال الشافعي رحمه الله. ازدياد الوعي يزيد الألم والإحساس بالمعاناة، وأحيانا يزيد الرغبة في عدم المعرفة. أن نعرف بدايةٌ للمزيد من "أريد أن أعرف"، وتأكيدٌ للخروج من وهم المعرفة، وزعزعةٌ صحية للطمأنينة الفكرية التي لا وجود لها من الأساس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.