شعار قسم مدونات

علماؤنا مراقبون للعلم أم غيوم تحجب نوره؟

blogs الدين والسلطة، شيوخ

إننا ها هنا في هذا الزمان، نبتعد عن نور الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بـ 1439 سنة، إننا كمن ينظر إلى نور نجم بعيد، تفصلنا عنه حقا 1439 سنة من المسير، لكن القرآن والسنة الصحيحة يقرباننا من ذلك الوحي وكأننا في خضمه.

إننا اليوم إزاء نور الوحي، كمثل قوم وجدوا في قريتين، في كلتا القريتين يوجد عالم فلك، لهما مقراب أو تلسكوب يرصد نجما مضيئا في السماء، عالم القرية الأولى متواضع متواصل مع العامة، يُفهمها حقيقة النجم المرصود ويتقاسم معها أي معلومة كانت، بل يترك للعامة أحقية التناوب على رؤية ذلك النجم من خلال مرقابه. عالم القرية الثانية عالم متبجح مغرور مزهو بنفسه يخال العلم عنده وقف، لا يُكلم العامة إلا من علو، لا يتواصل ولا يجيب عن سؤال، أما مرقابه فمقدس، والويل لمن اقترب منه أو حتى نظر إليه عن قرب.

نتاج ذلك أن كان عالم القرية الأولى، محبوبا ومحترما في الآن نفسه، فيما كان عالم القرية الثانية مكروها من الكبير والصغير، بل إن ثقافة أناس القرية الأولى حيال النجم الساطع، كانت أسمى بكثير من ثقافة أناس القرية الثانية، فأصحاب الثانية، لم يفقهوا شيئا حيال ذلك النجم إلا ما تلقوه عن آبائهم، بقايا معارف متآكلة، لم تتجدد لتقوقع عالمهم المغرور على نفسه، ومنعه سؤاله ومحاورته، فكان طبيعيا أن تقتحم الخرافات لب أولئك البسطاء المساكين.

من وضعوا أنفسهم أوصياء على الأمة، وتسلطنوا لحماية الدين والعلم، غيروا وجهة المرقاب "الشرع الإسلامي" فجعلوه أرضيا سطحيا، يهتم بفقه النساء، والدور، وسفاسف الأمور

حدث ذات ليلة أن توفي عالم المدينة الأولى، كانت جنازته مهيبة، حضرها وبكى فيها الصغير والكبير، تم دفنه بالقرب من برجه، أين كان يرقب النجم ويخبر عنه. قبل أن يتوفاه الله، عهد برعاية العلم من بعده لطالب نجيب واسع الاطلاع شديد حب العلم والمعرفة.. لقي الشاب قبول القرية وحبورها في خلافته للمتوفى النبيل.

سرت الأمور هي الأخرى على عجل في القرية الثانية، وكان مصير العالم الثاني يقترب. فأشقياء من فتيان القرية الثانية، اتفقوا ذات مساء، على اقتحام برج العالم المتبجح والانتقام منه نيلا من غروره، كذلك فعلوا، فاقتحموا المكان عليه وهو بين مرقابه يترقب، كانوا حوله يتمازحون وينظرون إليه بسخرية، فيما كان ينظر إليهم بغرور وتكبر، بل لفظ لسانه كلمات استفزت قريحة الشباب، وانتفضوا والشر قد أحاط بهم، توجس العالم خيفة.. حاول الفرار، لكن أحد الشباب في لحظة تهور، دفع العالم بكل ما أوتي من قوة.. ليسقط من عل سقوطا ما ترك فرصة لأنين، ولا لحراك، لقد مات العالم في حينه. 

وقف الشباب في وجوم، قد جاؤوا بأمر جلل، أمر سينالون به الموت لا محالة، فهم قتلوا، وشريعة القرية توجب قتل من قتل. على غير بعيد منهم، كان هناك أحد رجال القرية الماكرين يترصد، اقترب من الشباب مخبرا إياهم أنه يملك حلا يخرجهم من مصيبتهم، توسله الشباب توسل الغارق بالمنجد، فعرض عليهم مكره وقبلوا به جموعا.

قضى اتفاق الخديعة والمكر أن يخبروا القرية جمعاء، بأن العالم تحول صخرة على مرأى من أولئك الشباب ومعهم الرجل الماكر، وأن العالم في خضم تحوله أخبر الشباب بضرورة تولية الرجل الماكر مكانه، قيما ومسؤولا على البرج.

دفن العالم وأقيمت على مكان دفنه صخرة عظيمة تعاون على جلبها المتآمرون، ووضعوها على قبره الماثل قبالة البرج. وأسرعوا بعدها مخبرين القرية بما جرى، ولأنها قرية غاب عنها العلم ومات فيها منذ أمد، صدقت الأسطورة بل وتمسكت بها، وتسارعت النساء إلى الصخرة يتبركن بها وما حولها، وأصبح العالم المكروه في لحظة وليا صالحا، تذكر له مناقب لم تكن واقعا يوما قط.

ترك علماؤنا مقاصد الشريعة العليا وشموليتها ووضوحها، أصبح نورها الحقيقي يُجهل ويحجب، فكان نتاج ذلك نشوء أجيال لا تعير شأنا ولا وزنا لشرائعها، أجيال تركت العلم القويم وتمسكت بالشعوذة والأماني
ترك علماؤنا مقاصد الشريعة العليا وشموليتها ووضوحها، أصبح نورها الحقيقي يُجهل ويحجب، فكان نتاج ذلك نشوء أجيال لا تعير شأنا ولا وزنا لشرائعها، أجيال تركت العلم القويم وتمسكت بالشعوذة والأماني
 

أما الرجل الماكر فصار يمجد ويبجل، هذا الرجل الذي أسرع الخطى نحو المرقاب، نظر فيه فرأى نجما، لم يفقه شيئا في نوره، غير اتجاه المرقاب نحو الأرض، كانت شدة التقريب كبيرة، بحث في جوانب المرقاب إلى إن عثر عما أعانه على ضبطه وفق الرؤية الأرضية، فأصبح يرى كل بعيد، ساعده في ذلك وجود البرج في تلة، أخذ ينظر إلى النساء وهن يتبركن بالصخرة، كانت نظرته فاسقة، ثم غير الاتجاه نحو القرية، وأصبح يلمح من خلال نوافذ دورها حكايات وأسرارا أعانته على الكهانة والشعوذة فيما بعد. وهكذا عاشت القريتان، واحدة في علم ونور، وأخرى في جهل وشعوذة.

لعلكم تأملتم جيدا هذا المثل القصصي الذي ضربت، فنور النجم الساطع هو الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والعالمان هما من ورثا العلم من بعده وعاصرونا، فمنهم من أدى الأمانة، وترك خلفا ينير خلفه، وهم قليلون، ومنهم آخرون تبجحوا واغتروا بعلمهم وتركوه لديهم، وتحاشوا العامة بحجة أنهم جاهلون هالكون لا أمل فيهم يرتجى، فكان هؤلاء قوما أماتوا العلم وتركوا الأمة تتخبط في جهلها وتهيم في شعوذة وتمائم.

والمرقاب هو الشرع الإسلامي، من يقربنا من نور الوحي المحمدي، الأحرى به أن يستلهم هذا النور من مصدره السماوي مباشرة، لكن من وضعوا أنفسهم أوصياء على الأمة، وتسلطنوا لحماية الدين والعلم، غيروا وجهة المرقاب فجعلوه أرضيا سطحيا، يهتم بفقه النساء، والدور، وسفاسف الأمور، وتركوا مقاصد الشريعة العليا وشموليتها ووضوحها، يُجهل نورها الحقيقي ويحجب، فكان نتاج ذلك نشوء أجيال لا تعير شأنا ولا وزنا لشرائعها، ولا تلقي لها بالا، أجيال تركت العلم القويم، وتمسكت بالشعوذة والأماني، واتباع الهوى، لسهولة إدراكها، ولتناسبها مع جهلها المستشري والمعشعش في الألباب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.