شعار قسم مدونات

أبي.. أول الرجال وأول الفرسان

مدونات - الأب
جارنا العجوز العصبي، يراني في النافذة فينادي عليّ" يا محمووود ازيك"، لا يميّزني لشدة كبر سنه وكنت وقتها "آنسة" محترمة في الجامعة، يجلس العجوز مع أبي في صيدليته يعلمه أبي القرآن، يتلو عليه بصوت جميل ويكرر الرجل وراءه، أراهما فأقول بلؤم -في خاطري طبعا- لماذا يعلمه بابا القرآن، سيموت قريبا، يمتد الزمان بالرجل، ويختم القرآن كاملا على يد أبي وصبره المديد الوافر..

أمر بفتن واختبارات عظيمة، أشعر بالألم والجزع، وأتذكر وجه أبي، فأطمئن، يحفظ أبي علي ديني أحيانا ولا يعلم هو ذلك، كل مرة أشعر فيها بظلم ليس له سبب إلا لأنني أنثى، أتذكر أبي، أقول ولكن أبي ليس كذلك لم يظلمنا، كل مرة أرى شيخا يتقول على الله بعاداته وتقاليده، أتذكر أبي وأقول"ولكن أبي ليس كذلك".. تكون أنت المرجع الأول، ساحل الانطلاق في المبتدأ، والميناء في المنتهى، آمن وهادئ دائما، كما يليق بك وبوجهك الصبوح..

في صدمتي العاطفية الأولى، كان أبي هناك تلقاني بين ذراعيه واحتضنني وبكيت حتى استحييت منه، وشعرت فجأة أنني أقفز فوق الخط لأنضج فجأة، بين لحظتين كبرت لدرجة أنني شعرت أنني لم أعد أخاف من شيء، كنت هنا وهناك في نفس الوقت، حاضرا دائما، حتى لو غبت، حضور حقيقي ينفذ للقلب والروح، وماذا يتمنى القلب إلا حضور الحبيب الدائم، كلام قليل وحكمة كثيرة غامرة..

أبي بعيني يظل حاضرا دائما بأبهى صورة، كأول الرجال، وأول الفرسان، وأول كل شيء جميل، مهما مر الزمان، بالنسبة لي، يكون أبي هو الزمان نفسه، يمر معي على عمري، بصحبتي وبصحبته طوال الوقت

تُدللنا حتى يكاد ينقص دلال الأرض، تدللنا حتى يختفي المنطق من عقلي، المنطق البديهي أنه "ليس كل الرجال كأبيك"، فلا أصدق أن رجلا يضرب زوجته، ولا أن رجلا يهين ابنته، ولا أن رجلا يُغضِبُ أنثى أصلا، حتى أصطدم بالواقع، وأسمع جارا يضرب زوجته، فأعرف أننا قد أخذنا حظ عدة نساء أخريات من اللطف واللين والأناة والحلم ..

في البيت، تمد يدك -رغم توافر الأيدي- وتعد الطعام، وتطعمنا بيديك، وتحسن حتى يفوق طعام أمي، ربما لن تتذكر، ولكننا نذكر، ونبتسم، وننام فنحلم بك، فتصبح حياتنا أرق وأجمل وألطف، ويتعطل لساني، أعجز عن الكلام، لأن المشاعر تفيض حتى تغرقني وأعجز عن الكلام تماما وتغيض الكلمات..

علمتني الحياء بغير قصد، تقف على باب الغرفة وتدق الباب"احم احم.. صلاة الفجر"، مرة واثنين وثلاثة، إذا لم نقم، دخلت وأيقظتنا وحملتنا عنوة حتى باب الحمام و"الصلاة يرحمكم الله"، نذكر ولا ننسى.. أبي لا أتحدث عنك إلا وأقول "بابا très gentil" لا أجد تعبيرا ألطف من لطفك، تكون المبالغة في وصفك انتقاصا ظالما لحقيقتك..

أحب الورد، ليس لأنه شيء رومانسي، ولا لأنه تعبير عن العاطفة، بل لأنني أراكما فيه، أمي وأبي، وأتمثلك فيه وأنت تصوغ الأنثى،" تعزّ"النساء من أهل دارك حتى الخدم منهن، بلا تكلف ولا تصنع، بل جود خارج من ثنايا القلب، جارٍ منهمر، لا يكاد أحد يحس به من شدة تلقائيته، وأنا يسحرني الجود الغامر..

في بيتنا غيبتما التلفاز، لأنكما قررتما أنه ليس الشيء الأنسب لتربيتنا، ولم تعلما أنه مع غياب التلفاز غابت كل الصور الرومانسية الزائفة، والتصورات الخيالية عن الزواج والعلاقات، ومع هذا الغياب، حضرتما أنت وأمي بأبهى صورة، نموذجا ومثالا، تعلمانا كيف يكون الحب والود والسكينة والزواج..

بعد أيام يأتي عيد ميلاد أبي، لا أعرف الرقم تحديدا، لأن أبي بعيني يظل حاضرا دائما بأبهى صورة، كأول الرجال، وأول الفرسان، وأول كل شيء جميل، مهما مر الزمان، بالنسبة لي، يكون أبي هو الزمان نفسه، يمر معي على عمري، بصحبتي وبصحبته طوال الوقت، أفتح عيني وأتطلع، وحيث يكون هو أكون أنا، أدور حوله وأترقب ما تنطق شفتاه..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.