شعار قسم مدونات

علامَ يعيش الإنسان.. قراءة في وصايا تولستوي

مدونات - علام يعيش الإنسان
وقعت بين يدي قصة قصيرة لليو تولستوي، اسمها (What men live by) علامَ يعيش الإنسان؟ ويقص فيها حكايةَ ملك عصى ربه في أمر، حيث أمره الله أن يقبض روح والدة لطفلتين توأمين يتيمتين، مات والدهما قبل أسبوع من إنجابِهما، ولم يتعدّ عمرهما أسبوعين تقريبا، فأشفق الملك على الأم، ولم يقبض روحها، وبذلك عصى ربه. وكان جزاء عصيانه، أن أخذ الله جناحيه، وأنزلَه إلى الأرضِ؛ ليعيش كالبشرِ؛ ويعرف ثلاثةَ أمور، فإن عرفَها عادَ إلى الملكوت السماوي، وإن لم يعرفها فلن يرجع إليه، وكانت هذه الأمور: يجب أن يعرف ما الذي يسكن الإنسانَ، وما الذي لم يُعطَ للإنسانِ، وعلامَ يعيش الإنسان.
 
ونزل هذا الملاك باردا لا ثياب عليه، مختبئا خلف كنيسة، إلى أن وجده صانع أحذية تعيس فقير أرسلته زوجته لإحضار الديون من الناس وجلبِ معطف لهما بدلا من المعطف القديمِ المهترئ، فلم يعطه أحد حقَّه، سوى واحد أعطاه 20 كوبكا فقط! واقترب سايمون من الملاك الذي سمّي في القصةِ ميخائيل، وفي الروسيةِ اسم ميخائيل دارج، وألبسه بعض الثياب التي كان يرتديها حتى يدفأ، وعادَ لزوجتِه، وبدلا من إحضار معطف، جاء برجل غريبٍ!
 
وتتابعت أحداث القصة، وعرف الملاك ما الذي يسكن الإنسانَ بعدَ معاملةِ زوجةِ سايمون (ماتريونا) وعرفَ ما الذي لم يعط للإنسانِ بعد وفاة رجل من الطبقةِ الأرستقراطيةِ كانَ قادما إلى سايمون وميخائيل -الذي صار صانع أحذية أيضًا- من أجل أن يصنعوا له حذاء رائعا فخما، وعرف علامَ يعيش الإنسان بعد رؤيةِ الفتاتين اللتين ماتت أمهما التي كان قد أرسلَه اللهُ إليها ليأخذ روحَها فرفض، علما أن سيدة رعتهما أفضل رعايةٍ.
 
تولستوي ورؤيته للعقابِ والثوابِ
كتب ليو تولستوي كتابا جميلا عن النبي صلى الله عليهِ وآله وسلم وسمّاه "حكم النبيّ محمد"، كما أنه كتب في وصيته ألا يوضع صليب على قبره

بداية، إن في القصة ملمحا رائعا ينمُّ عن إيمانٍ كبير بالله من قِبلِ تولستوي الذي يعبرُ وبشكلٍ واضحٍ عن عقابِ المخطئِ، حتّى لو كان ملاكا، علما أن ميخائيل في التشريعِ الديني المسيحي هو رئيس الملائكة، ومع ذلك عاقبه الله، ولكنه لم يعاقبه بشكل يمحوه تماما، ولم ينسف ملائكيته أبدا، ولم يعاقبه أبديا، وإنما عاقبه جزئيا لعدم علمِه بالشيءِ، ثم أعاده بعد أن تعلم بوساطة نفحاتٍ إلهية أُرسلت لمساعدتِه على التعلم.

 
ومن هنا ندرِك أن تولستوي ربما يؤمن بعقاب الإنسان في الآخرة إلى حد معين، ثم يسامحه الله لجهله؛ مخالفا بذلك العقيدة المسيحيةَ، ففي الإصحاح التاسع من إنجيلِ مرقس :"وَتمضي إِلى جھنم، إِلى النارِ التي لاَ تطفأ، حیث دودھم لا یموت والنار لا تطفأ". وفي الإصحاحِ الثالثِ من إنجيلِ متى:" فیمضي ھؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حیاةٍ أبدیة". وهذا من وجهةِ نظري أقرب إلى الدين الإسلامي، حيث يورد ابن حزم في كتابِه الماتعِ "الفِصَل في المللِ والأهواءِ والنحل" في الصفحةِ الحادية والسبعين: "روينا عن عبد اللهِ بنِ عمرو بنِ العاص لو أقام أهل النار في النارِ ما شاء الله أن يبقوا لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيهِ منها". وهناك أدلة قوية أيضا عند ابن القيمِ في كتابيه الشائقين (حادي الأرواح) و(شفاء العليل) ويدعم فيهما أدلة فناء النارِ. وغيرهم أيضا ممن قالوا بهذا القول، ولا يتسع المقام هنا للتركيزِ على هذه النقطة، وإني أرى فيها صوابا، لعلمي برحمةِ الله سبحانه وتعالى، وأن الإنسان قاصر علميا وجاهل في كثير من الأمورِ.
 
بالإضافةِ إلى أنني ألمح في تولستوي إشارته إلى أن أهل الأرض خلفوها كي يتعلموا، وما أسمى هذين الأمرين، بالإضافةِ إلى عبادةِ اللهِ سبحانه جل وعلا. وأود أن ألفت أخيرا في هذا الأمر، إلى أن ليو تولستوي كتب كتابا جميلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسماه (حكم النبي محمد) كما أنه كتب في وصيته، ألا يوضع صليب على قبرِه، وقد قرأ القرآنَ، وفي القرآنِ آية تشير إلى عجز الملائكة أيضا وقصورِهم على فَهم أهداف اللهِ قبل إخبارِهم بها، حيث يقول في كتابِه العزيز في سورةِ البقرةِ: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ". فهذه إشارات تدل على اتقادِ ذهنه وقربه من الإسلام، وإن لم يكن مسلما، ولا أزعم أنَّ تولستوي قرأ لابن القيم، أو لابنِ حزم فتأثر بهما، وإنما أشير إلى وجهة نظر تولستوي، وإلى قربه من جوهر الدينِ وعلة الأديان.
 
قصة
قصة "علام يعيش الإنسان" (مواقع التواصل)
 
تولستوي وطلبات الله: الطلب الأول، كان أن يعلم الملاك ما الذي يسكن الإنسان، ويشير تولستوي في قصته، إلى أن الذي يسكن في الإنسان هو الحب! وأن الملاك لم يعش باعتماده على نفسه، وإنما بالله ومحبته، حيث رأى الملاك هذين الأمرين في سايمون وزوجتِه ماتريونا. والطلب الثاني كان معرفةَ ما الذي لم يعط للإنسان، فكانتِ الإجابة أنه لم يعط تحديد حاجياتِه، ولكنه يستطيع تحديد حاجياته وأهدافِه بعد تفكير ونظر وتأمل، فذاك الرجل الذي كان همه كله حذاءين، كان رجلا أرستقراطيا ولا شك أنه من عائلة مرموقة، ولكن، لم يستطع تحديد هدفِه بشكلٍ دقيق، حيثُ اتجه إلى الأمورِ المادية المحسوسة والملموسة، بالإضافةِ إلى الأمور التجريدية التي تضخم الأنا عنده، بدلا من التأمل والتفكير بجوهر الأشياءِ، والصفاتِ الحسنة والخلُقية التي يجب أن يتحلى الإنسان بها؛ ولذلك كان يتحدث مع سايمون كأن الناس عبيد عنده، ويغلظ القول له. أما علام يعيش الإنسان، وهو الطلب الثالث، فقد اكتشف الملاك أن الإنسان يعيش من أجل الرحمة، ومن أجل الآخرين، وأن الإنسان لا يعيش بتدبيرِه الخاص، وإنما بالرحمة والعيش من أجل الآخرين، لا من أجلِ حفظِ أنفسِهم وحسب؛ وهذا ما حدا المرأةَ إلى التكفلِ بالتوأمين اليتيمتين.
 
ويعطينا تولستوي هنا عبرة رائعة تتلخصُ في المعارفِ الثلاث تلك، إذ كأنه يقول لنا: أحبوا بعضكم، وحددوا الغاياتِ العليا والمثلى واهدفوا إليها، وعيشوا من أجلِ الآخرين، وارحموا كي ترحموا.
 
تولستوي وفولتير: إن فولتير سابق على تولستوي بقرن ونصف القرنِ تقريبا، وقد كتب فولتير مرة رواية قصيرةً سماها "زديج" وهي تتحدث عن شاب بابلي معروف بأخلاقِه وكرمِه وشهامته ونخوته، لكنه كلما كان يصنع خيرا يرده الآخرون له بِشر، فكان يصبر حتى كوفئ فأصبح ملكا كبيرا وعظيما. ولمحت تشابها بين زديج فولتير، وملاكِ تولستوي، يكمن في أنهما يصرانِ على قصورِ المخلوقاتِ أمام حكمةِ اللهِ الواسعة، وأمام قوانينه الجليلةِ التي تحكم الكون وتسيره، فملاك تولستوي عوقب لأنه جهلَ حكمةَ اللهِ في أخذ روحِ أم التوأمين، واعتقد أن أمر اللهِ شر، وعد نزوله إلى الأرضِ بشرا شرا له، فصبر وتعلّم وعاد إلى الملكوتِ، أما زديج فولتير نراه صبر على الشر أيضا، بالإضافةِ إلى أنَّه امتحن كي يصبحَ ملكا لبابل، وتلقى أسئلة فأجاب عنها، كما أنه انتصر على الأميرِ أوتام، وتحدى إيتوباد وفاز في المعركة فأصبح ملكا.
 
 تولستوي (مواقع التواصل)
 تولستوي (مواقع التواصل)

 
ونلحظُ هنا مقاربة أيضا بين تولستوي وفولتير، فهما يشددان على أهميةِ التعلم، وأهمية الحكمة، وكلاهما انتقدَ الكنيسةَ أشدَّ النقد.
 

أثر الفراشةِ
يتجلّى أثر الفراشةِ  -وهو مصطلح فيزيائي بالدرجةِ الأولى، وتابع لنظريةِ الكايوس أو الفوضى- في القصةِ بشكل واضح وصريح، فلو أن سايمون أهمل الملاك، وكان قد أهمله لحظة ثم عاد له، وبعبارة أدق، لو بقي سايمون على رأيه مهملا الملاكَ، فإننا سنقع هنا أمام أمرين، الأول في الإنسانِ الذي سيأتي بعده وقد يكون شريرا، والأمر الآخر، أن الملاك قد يموت جوعا وبردا، بالإضافةِ إلى أنّ الملاك لو امتثل لأمرِ ربه ولم يعصه، لما اختبرَ تجربةَ الإنسانيةِ وتعلم، وربما لم ينزل أصلا، ولتغيرت مجريات القصة، أو حذِفت. ولو لم يأتِ الرجل الأرستقراطيّ الغني إلى سيد فقير مثل سايمون، لما عرف الملك إجابةَ الأمرِ الثاني، ولو لم تعطف السيدة على التوأمين، لما تمكن الملك من الإجابةِ الثالثة.

ويفصح لي هذا عن أننا دوما أمام خيارات حرة، ومجرد اتخاذ قرار صغير، نكون قد أغلقنا بابا آخر وحياة أخرى، وأن اختيارنا لأمر ما، يقلب حياتنا رأسا على عقب، قد تكون للأفضل، أو للأسوأ. وقد يتهم أحد ما الله أنه سود عيشته، ولكن هذا بالنسبةِ لي يمثل قصورا، لسببين؛ الأول أن كل ما يحدث معك هو نتيجة قرارات اتخذتها مسبقا، حتى لو كان بعد دهر من الزمن. والسبب الآخر أن الإنسان لا يعرف ما يخبئ الله لهُ مستقبلا، فكيف يفتي بما يجهل؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.