شعار قسم مدونات

تونس.. الأمن والصحافة علاقة كر وفر

مدونات - الصحافة التونسية
دول العالم وأنظمتها تحكمها مؤسسات بعلاقات إقليمية ودولية تُبنى بإعلام متنوع طبقا لمصالح حزبية، سياسية، أو اقتصادية أواجتماعية؛ فيها ما هو من أجل تطور وازدهار المجتمعات، وفيها ما هو فقط خدمة لبعض المؤسسات والأشخاص، وفيها ما هو داخلي وفيها أيضا ما هو إقليمي ودولي خارج عن حسابات العموم ومصالح المجتمعات، وفي ما نحن عليه اليوم كصحفيين ومؤسسات إعلامية خاصة وعمومية في تونس وبعض الدول العربية الشقيقة فالبعض منها محددة بولاءات محلية في ظاهرها؛ ولكنها إقليمية دولية في باطنها من شأنها أن تأثر على المشهد السياسي والثقافي وتوجيه الرأي العام حين ما تكون حميمية مع مؤسسات وشخصيات ومنظمات لها وزن وسلطة، ثم تتغير بسرعة لتصبح علاقة عدائية متوترة بمجرد عمل صحفي أو تصريح لم يرق لجهة معينة أو حدث تتنوع صيغ تقديمه للمتلقي من وسيلة إعلام لأخرى.
 
يوم الجمعة 2 فيفري/شباط 2018؛ يوم غضب دعت فيه النقابة الوطنية للصحفيين بتونس إلى وقفة احتجاجية بموجب تكرار الانتهاكات والمضايقات التي طالت العديد من الصحفيين ومؤسسات إعلامية من طرف الأجهزة الأمنية في البلاد وصلت لحد التنصّت على هواتف خاصة، وتهديدات خطيرة مباشرة في تغريدات عبر مواقع التواصل الاجتماعي فما الذي جعل الأجهزة الأمنية تضع نفسها في صدام ومعركة فشلت كل أنظمة العالم بأجهزتها الأمنية والاستخباراتية في الفوز بمثل هذه المعارك؟ فهل ستكون هناك مؤسسة أمنية بنقاباتها سليمة القوى بدون صحافة حرّة؟ هل من مصلحة أي جهاز أمني في أي دولة كانت تركيع الصحافة ووسائل الإعلام ؟
 
ضعف محتوى التقارير والبرامج وسذاجة بعض المنوعات التلفزيونية هي عامل آخر لا يقل أهمية في استصغار واحتقار بعض الأمنيين لصحفيين ومؤسساتهم التي يعملون بها؛ تدفعهم للقيام بممارسات غير قانونية

لكن في المقابل هل يحق للصحفي الوصول لأي معلومة تفيد الرأي العام بطرق مختلفة وفي الوقت المناسب؟ هل يحق له بث أي مادّة حتى ولو كانت خارجة عن إطار الحرفية وقواعد الصحافة؟ هل يحق له اختيار ضيوفه ومن يراه صالحا لتقديم مادة إعلامية تراها مؤسسته ناجحة حتى ولو كانت ساذجة في نظر المجتمع؟ مقاربة وأسئلة يطول التعمق فيها وفي جميع زواياها من أسباب ومسببات، ومواد استُعملت ومهدت ووضعت وحدات الأمن والصحافة في قوقعة ينظر كلاهما إليها بأنها تهمة؛ وهي بالفعل كذلك، فالأجهزة الأمنية تعلم جيدا ما يحصل على الأرض من مستجدات وأحداث، وهي أيضا في اتصال مباشر مع الشارع وجميع شرائح المجتمع وكذلك مؤسسات الدولة والشخصيات العليا بعلاقاتها الداخلية والإقليمية، فهي قادرة على تقيم عمل إعلامي ومدى تأثيره عليها وعلى علاقتها بالمجتمع.

 
هنا تصبح المعلومة التي يقدمونها للصحفيين ووسائل الإعلام مدروسة جيدا ولا تصب إلا في مصلحتها أو مصلحة السلطة السياسية، فيضطر الصحفي إلى اتخاذ طرق أخرى يأمل من خلالها الحصول على المعلومة سواء كانت متوازنة أو مع، أو ضد ما قدمته أجهزة الأمن خدمة لمصلحة جهة أو الخط التحريري لمؤسسته، فتغييب المعلومة وتسييسها وتطويعها على مقاس معين من مؤسسه دائمة وحساسة في البلاد، والطرق المختلفة لعمل الصحفيين ووسائل الإعلام وصيغ تحرير الخبر وتحليل المعلومة من أجل سبق صحفي أو خدمة جهة معينة؛ تجعل العلاقة بين جهاز الأمن والصحافة دائمة التوتر حتى وإن كانت في ظاهرها زُبدة على عسل، فعلاقتنا المهنية كصحفيين مع أجهزة الأمن كر وفر متواصل، وكل يريد حقيقة معينة تصب في مضامين ثقة فقدت، كرّستها تصريحات من مسؤولين في الدولة والأجهزة الأمنية، وفي اتهام رئيس الدولة لوسائل إعلام أجنبية بتشويه صورة البلاد في جانفي/كانون الثاني الماضي قد تكون ذريعة وأداة ارتكزت عليها بعض الجهات الأمنية للتضييق ومراقبة صحفيين ومحتوى تقاريرهم ومصادرة معداتهم؛ مما أجبر نقابة الصحافيين على إصدار بيان استنكار من تصريحات رئيس الجمهورية وممارسات التعسف التي طالت حرية الإعلام والصحافة الأجنبية.
 

5 ديسمبر/كانون الأول 2016؛ تاريخ وضَع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التونسية في إحراج كبير حين تمكن عملاء جهاز الموساد الإسرائيلي من اغتيال واحد من كبار علماء البلاد؛ مهندس الطيران الشهيد محمد الزواري، ثم غادر منفذو العملية البلاد بسلام
5 ديسمبر/كانون الأول 2016؛ تاريخ وضَع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التونسية في إحراج كبير حين تمكن عملاء جهاز الموساد الإسرائيلي من اغتيال واحد من كبار علماء البلاد؛ مهندس الطيران الشهيد محمد الزواري، ثم غادر منفذو العملية البلاد بسلام
  
في المقابل ضعف محتوى التقارير والبرامج وسذاجة بعض المنوعات التلفزيونية هي عوامل آخرى لا تقل أهمية في استصغار واحتقار بعض الأمنيين لصحفيين ومؤسساتهم التي يعملون بها؛ تدفعهم للقيام بممارسات غير قانونية ومهينة إلى حد ما للإعلام ومحتوى ما يقدمونه. وفي إحداث أخرى ذات أهمية كبرى مثل الاغتيالات السياسية التي اتهم وانتقد فيها صحفيون ووسائل إعلام أداء الأجهزة الأمنية بالتقصير، وطلوع أسماء منها في هذه العمليات قد أدى إلى إقالة عديد الكوادر الأمنية وصولا إلى تغيير وزيرة الداخلية آنذاك والمشهد السياسي برمته.
 
15 ديسمبر/كانون الأول 2016 تاريخ هو الآخر وضع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التونسية في إحراج كبير مع المجتمع المدني والصحفيين ووسائل إعلام أجنبية ومحلية؛ حين تمكن عملاء جهاز الموساد الإسرائيلي من اغتيال واحد من كبار علماء البلاد مهندس الطيران الشهيد محمد الزواري، ثم غادر منفذو العملية البلاد بسلام، يليها دخول صحفي يعمل لصالح القناة الإسرائيلية ويبدأ تقريرا مفصلا من أمام منزل الشهيد لينتهي في شارع الحبيب بورقيبة على بعد أمتار من وزارة الداخلية، فكيف للمكلف بالإعلام أن يبرّئ وزارته من هذا الفشل الاسخباراتي الأمني؟ وكيف سيواجه هذا الحدث الذي تعتبره وسائل الإعلام والصحفيين مادة دسمة وعملية فيها انتهاك للسيادة الوطنية؟ فتصريحات المعارضة ومنظمات المجتمع المدني ترى فيها الوحدات الأمنية غولا واجب التصدي إليه بتعلّة التكتّم على سرّية ومجرى الأبحاث مما لا يصدقه الصحفيون ولا المجتمع المدني، وهو في الحقيقة المَخرج الوحيد من هذا المأزق الذي تبادل فيه الطرفان الأمني والإعلامي الاتهامات من ناحية الفشل الأمني من جهة والتنسيق الإعلامي مع الصحفي الصهيوني من جهة ثانية.
 
وفي الحقيقة ليست بغريبة مثل هذه الممارسات الأمنية والملاحقات، وقد تُكرس الوحدات الأمنية والاستخبارتية كل ما لديها من عتاد وقوة من أجل ملاحقة صحفي يعد عملا استقصائيا في جريمة أو اختلالات ما تهم الرأي العام. كل هذه الأحداث والاختلافات والاتهامات المتبادلة والثقة المنعدمة هي أساس علاقة قائمة وليس لها نهاية بين الطرفين، فطبيعة الإعلام وعمله هي البحث عن الحقيقة ونقل الخبر وتحليل المعلومة بطرق شتى، ومن حقائق التاريخ وطبيعة الأمن التضييق عليه بمشروعية قوانين قابلة للتمطط والتقلص في مجملها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.