شعار قسم مدونات

تركيا اليوم.. لؤلؤة الموت القادم من الشرق!

blogs - istanbul
زرت اسطنبول منذ سنتين، ومكثت فيها قرابة الشهرين.. تلك المدينة الساحرة .. لؤلؤة الشرق.. ملتقى أوربا مع آسيا .. تعددت التسميات والسحر واحد! لم يكن انبهاري بإسطنبول انبهار فتاة ساذجة تغادر بلدها للمرة الأولى وترى مدينة حداثية، لا أبدا..يمكنني القول إنني ولو كنت ساذجة قليلا، منغلقة على نفسها كثيرا ربما .. إلا أنني أمتلك قلبا يستطيع الإحساس بما وراء الصورة.
   
سحر إسطنبول أيها السادة كان في عينيّ هو اجتماع الثقافات وسيرها جنبا إلى جنب .. رغم أن المدينة مصبوغة بالصبغة الإسلامية (وهذا طبيعي كون الإرث التاريخي إسلامي هناك) لكنك تستطيع أن ترى الألوان الأخرى تتموج بحريّة تامة! في إسطنبول ترى الشيخ الملتحي يجلس جنبا إلى جنب مع مثليّ يرتدي الألوان الصارخة والكعوب العالية في المواصلات العامة، تشاهد بكل طبيعية الفتيات بحجاباتهن الملونة يتسوقن مع صديقاتهن اللواتي يلبسن بلوزات صيفية "نصف بطن" .. في اسطنبول تستطيع .. أ .. عذراً .. فمقالي هذا ليس عن جمال إسطنبول بالتحديد، مقالي هذا عن التجديد الإسلامي!
   
طالعني منذ يومين أن "السلطان" أردوغان يعتزم إصدار قانون بمنع العلاقات الجسدية بالتراضي خارج إطار الزواج بوصفها "زنا" صريح، وبمعاقبة من يفعل هذا! وطبعا لا يخفى على الجميع أن أردوغان المتدين يريد تطبيق الشريعة الإسلامية ما أمكن في تركيا الرائعة .. قبل أن أقول رأيي في الموضوع كله، دعوني أخبركم نبوءة صغيرة من فتاة عادية ليست خبيرة اقتصاديّة ولا سكانيّة ولا استراتيجيّة .. اعتبروها أن "الله يضع سره في أضعف خلقه" .. وإليكم هذا السر: بعد عشرة أعوام على الأكثر، لن تبقى إسطنبول الرائعة رائعة بعد اليوم، ولن تبقى تركيا تلك اللؤلؤة الشرقية المبهرة .. ربما ستصبح لؤلؤة سوداء متفحمة أو في أحسن الأحوال لؤلؤة مغلفة! ستقولون لي أكيد! فأردوغان يطبق الإسلام والعالم متآمر على الإسلام!
  

تلك الطائفة المتدينة الجميلة الملتزمة بنفسها فقط والتي كنا نراها في تركيا وبلاد الشام تحديدا، سوف تذهب بلا رجعة، واعتبروا هذه نبوءة

سوف أضحك كثيرا، وأكتشف أنّي لست بتلك السذاجة التي حسبتها إذن!  تتقدم الدول بحرياتها مع حفاظها على إرثها التاريخي، وهذا ما ميز تركيا العلمانيّة في العقود الماضية. في تركيا تشم عبق الإسلام في كل مكان، في مساجدها المنمقة وأسواقها الملونة.. في مصابيح رمضان المعلقة في الشوارع ..فتركيا فخورة بإرثها الثقافي الإسلامي ومع ذلك فهي تمشي ممشى الحداثة التي لا مفر منها، وهي حرية الرأي والمعتقد والحياة طالما لا يهاجم حريات أخرى! شئنا أم أبينا، هذا هو القانون الكوني اليوم الذي بفضله تصبح الدول المتحضرة "متحضرة" وتتفتح فيها العقول الإنسانية لتبدع .. الحريات الشخصية هي التربة الخصبة واليانعة لجو ثقافي صحي، هذا ليس رأيي الشخصي .. هذا ما ترونه أمامكم في هذه الأيام.

   
أعيش الآن في دولة أوربية منذ سنة ونصف وأرى تماماً ثمار هذا الممشى، فأوربا فخورة جداً بإرثها المسيحي لكنها بنفس الوقت لا تفرض قوانين دينية مسيحية على أفرادها كتجريم العلاقات خارج إطار الزواج مثلا ( نعم في الدين المسيحي تُعتبر هذه العلاقات زنا) ولا تصدر قوانين بوجوب صيام أفرادها وقت الصيام ( نعم في الدين المسيحي يوجد ما يسمى بالصيام ووقته الآن) .. لذلك فإن كل فرد حر تماما بالحياة كما يشاء! وفي تركيا الأمس .. الفرد حر إن صام أو لا .. الفتاة حرة إن تحجبت أو لا .. الشعب بشكل ولو جزئي حر! .. ومن هذه الحريات الصغيرة تبزغ الحريات الكبيرة.. الحرية في قول كلمة الحق ضد الاستبداد، الحرية في القول للمخطئ إنّه مخطئ، بربكم، كيف تطلبون من المقهور رأيا وفعلا بأن يثور ضد الخطأ؟ بأن يقف في وجه الحاكم الجائر؟
   
اليوم أردوغان يفرض تجريم العلاقات خارج الزواج، وغدا يفرض ارتداء الحجاب.. والقادم أهول. أعود إلى موضوعي الأساسي، التجديد الإسلامي .. الدين الإسلامي بدأ منذ ما يقرب 1400 سنة، واستطاع توحيد قبائل عربية كثيرة كانت تتقاتل من أجل ناقة أو خروف (وهذه حقيقة) لتستطيع بعدها تشكيل دولة قوية واحدة، من غير المقبول منطقيا أن نسقط قوانين تلك الدولة الوليدة بحذافيرها على واقع اليوم .. يجب أن نفخر بتلك الثقافة ونلون بها دولنا لكن دون فرض التزاماتها الدينية، وهذا ليس بضد لمن يريد أن يلتزم دينيا، لكن أرجوكم لا تجعلوا الالتزام الديني واجبا وطنيا وقوميا .. لا تجعلوا الإرث الديني بعبعا يلاحق الجميع .. دعوا الناس تعيش في حالها والتزموا أنتم دينيا!
   
إن بقي الفكر الإسلامي على وضعه الحالي بثقافة "تغيير المنكر باليد"، سوف ترون فريقين فقط في هذه البقعة الجغرافية البائسة، فريق من الملحدين الساخرين الوقحين الذين اقتلعوا أنفسهم من جذورهم الثقافية ويريدون اقتلاع الشجرة كلها، وفريق من المتطرفين الإسلاميين الذين يزرعون القنابل أينما حلّوا ليثبتوا أنهم على حق .. تلك الطائفة المتدينة الجميلة الملتزمة بنفسها فقط والتي كنا نراها في تركيا وفي بلاد الشام تحديدا، سوف تذهب بلا رجعة .. واعتبروا هذه نبوءة أيضا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.