شعار قسم مدونات

"الابتزاز" وباء متفشٍّ في العالم المعاصر

blogs - money
لطالما عرفنا الابتزاز بكونه سلوكا يقوم على التهديد بكشف معلومات معينة عن شخص، أو فعل شيء لتدمير الشخص المهدد، إن لم يقم الشخص المهدد بالاستجابة إلى بعض الطلبات، هذه المعلومات تكون عادة محرجة أو ذات طبيعة مدمرة اجتماعيا.
  
ولكن، للابتزاز أشكال وأنواع لا تعد ولا تحصى متفشية كالوباء في عالمنا المعاصر؛ بل وفي حياتنا اليومية، قد تتنوع أشكاله في مدى حدتها ودرجة وضوحها، كما قد يصوره ويدركه كل منا بشكل مختلف وفقا لمفهومه وقناعاته ومعارفه. فعلى الصعيد السياسي، نرى دولا قوية تبتز دولا أخرى أقل نفوذا سواء اقتصاديا أو عسكريا لتحظى بمكتسبات معينة أو لتحقيق مصالحها وأطماعها سواء المحلية أو الإقليمية أو الدولية، أو حتى لفرض أيدولوجيتها على غيرها من الدول. كما كشف لنا التاريخ عن حالات ابتزاز لسياسيين وأصحاب نفوذ عالميا من خلال انتهاك حياتهم الشخصية لإجبارهم على اتخاذ قرارات وإجراءات تصب في مصلحة الجهة المبتزة لهم.
    
أما اقصاديا، فتتنوع أشكال الابتزاز بين جماعات ضغط لا تتردد في أن تتخذ أي وسيلة في سبيل تحقيق أهدافها وفرض سياساتها أو سياسات الدول الداعمة والممولة لها على كيانات أو دول أخرى. ولا يقتصر الابتزاز الاقتصادي على ذلك فحسب؛ بل برأيي قد يتجسد الابتزاز الاقتصادي في الحياة المهنية للأفراد والعاملين في مختلف القطاعات. فعندما نرى مؤسسات وشركات وإدارات تستغل حاجة العاملين فيها لكسب قوت يومهم، بغرض إجبارهم على اتخاذ سلوكيات مشبوهة، أو التنازل عن حقوقهم، أو تعطيل وتقييد تطورهم الوظيفي، أو فرض سياسة الأمر الواقع، أو الخضوع لإجراءات عمل سلبية، أو حتى انتهاك حقوقهم العمالية التي تكفلها لهم القوانين والتشريعات الاقتصادية والدولية والإنسانية، فهذا برأيي هو إحدى أبشع صور الابتزاز في عالمنا المعاصر.
   

إن لم يتخذ كل فرد منا موقفا حاسما في محاربة كافة أنواع الابتزاز التي يتعرض لها، فنحن مشاركون في تغذية هذا الوباء وانتشاره

ناهيك عما يسلكه بعض المدراء من استغلال لمعلومات شخصية عن موظفيهم واستخدامها أو استحضارها في اجتماعاتهم المهنية وخلافاتهم في نطاق العمل؛ بل وفي تصفية حسابات شخصية. أما إذا ما أردنا أن نسلط الضوء على الابتزاز الاجتماعي فلعل أول ما يتبادر إلى ذهني هو ابتزاز المجتمع بمختلف مكوناته للأفراد، من خلال تقييد حرياتهم وطمس هوياتهم الشخصية وقناعاتهم الخاصة وفرض نمط حياة معين يتماشى مع عادات وتقاليد سائدة ومتماهية مع الغالبية العظمى من هذا المجتمع، إذا ما أراد الفرد أن يتم تقبله اجتماعيا أو أن يحظى بفرصة حياة هادئة ومسالمة خالية من أشكال التنمر المجتمعي التي لا تعد ولا تحصى.
   
وهنا؛ دعوني أستحضر شكلا من أشكال الابتزاز التي قد نغفل عنها أحيانا رغم أنها من أكثر أنواع الابتزاز انتشارا، والتي قد نكون جميعا تعرضنا أو عرضنا أحدهم لها في حياتنا دون إدراك منا، ألا وهي الابتزاز العاطفي. فنرى علاقات زوجية وأسرية قائمة للأسف على ابتزاز عاطفي من قبل أحد طرفي هذه العلاقة للطرف الآخر مستغلا الارتباط والحاجات العاطفية لشريكه؛ ليمرر ويفرض سلوكياته العدوانية أو لتغذية أنانيته وحبه للذات وللتملك، دون أن يدرك الطرف الآخر أنه يتعرض لواحدة من أسوء وأقذر أنواع الابتزاز التي من الأجدر به أن يرفضها. بدلا من أن يقبلها أو يتقبلها أو يستسلم لها.
   
إذا ما أعاد كل منا حساباته، ونظر إلى حياته بمنظور أوسع وأشمل، فسندرك أن مختلف أنواع الابتزاز قد تركت بصمة في حياتنا؛ بل وأحيانا سيطرت عليها وسيرتها وأخذتها في اتجاهات معينة يصعب علينا أن نصدقها وأن نصرح بها. فكم منا كان ضحية لإحدى أنواع الابتزاز السياسي الذي مارسته دول عظمى على دولنا ودفعت شعوبنا أثمانه في حياتها اليومية؟! وكم منا كان عرضة للابتزاز الاقتصادي في عمله وكسب قوت يومه؟! وكم منا خضع لابتزاز عاطفي في مرحلة ما من حياته من قبل أشخاص كرس لهم حياته وتخلى عن طموحاته وقناعاته في سبيل إرضائهم؟!
   
إن الابتزاز هو حلقة شرسة، يغذيها طرفا الابتزاز، المبتز بممارسته وفرضه لها، والمتعرض للابتزاز بخضوعه واستسلامه لها؛ مما يشجع المبتز على الاستمرار في ممارستها واتخاذها نهجا وسلوكا له ليحظى بما يصبو إليه أيا كان ذلك الهدف. وإن لم يتخذ كل فرد منا موقفا حاسما في محاربة كافة أنواع الابتزاز التي يتعرض لها، فنحن ودون أدنى شك مشاركون في تغذية هذا الوباء وانتشاره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.