شعار قسم مدونات

متى نصنع خلاصنا بأيدينا بدلا من انتظار السماء؟

blogs دعاء

زعم رجل الدين المسيحي يواقيم فلوري والذي عاش في عصر الظلمات الأوروبي، وتحديدا في القرن الثالث عشر ميلاديا، أن هناك قائدا مسيحيا سيخرج من أوروبا وتحديدا من إسبانيا ليعيد بناء قبر الرب في جبل صهيون بالقدس الشريف، بعد أن يهزم ويسحق المسلمين. لعل تكهنات الأب فلوري كانت ناتجة من سوء الأحوال التي تعيشها البلدان الأوروبية آنذاك؛ فالقدس ازدهرت وارتسمت الابتسامة على محياها بعد أن عادت لأهلها على يد صلاح الدين الأيوبي إثر عقود رزحت فيها تحت الاحتلال الغربي البغيض القادم من الجهة الأخرى للمتوسط.

عاشت أوروبا ما يزيد عن ألف عام من الفوضى والخراب، إضافة للحروب العبثية التي أهلكت الحرث والنسل، ودفعت بالمواطن الأوروبي للبحث عن الخلاص من هذه الحال القاسية والتي لا يرى لها نهاية أو بصيص نور في نهاية هذا النفق المظلم. 

أطلق رجال الدين في أوروبا بشائرهم وتكهناتهم، محاولين بث بعضٍ من الأمل في روح وقلوب هذه الشعوب التي عانت أيما عناء من الحروب اللانهائية، الفقر والجهل، إضافة للأوبئة والكوارث الطبيعية. فها هو بابا الفاتيكان وكبار مريديه يبيعون صكوك الغفران لمن ملك المال؛ ويقدم البديل للفقراء لمن لا يملكون المال، بالتحاقهم بالجيوش المتجهة شرقا لاستعادة مملكة الصليب.

يقول المؤرخون إن منبر صلاح الدين جُهز في دمشق قبل تحرير بيت المقدس بعقدين. إنها الواقعية والتخطيط للمستقبل البعيد. البعيد عن كل ما يتعلق بالتكهنات والتوقعات

عكف بعض رجال الدين المسيحيين على تحليل أجزاء من الإنجيل وبناء معادلات حسابية لهذه الأجزاء من الإنجيل أو تلك، ومن ثم ربطها بما يحدث في تلك الحقبة من الزمن؛ فتارة تقترب نهاية العالم لا محال، ومن غير المجدي أن تهتم بغدك الدنيوي والأجدر أن تجتهد في تحضيراتك للنهاية، فالعالم أمام نهاية وخلاص ووداع بلا عودة لهذه المعيشة المزرية. وتارة أخرى قدم أصحاب النبوءات والتكهنات عروضا لحروب مستمرة دون توقف، لتنتهي بحرب كبرى بين الخير والشر.

لم يكن رواد النهضة الأوروبية ممن تنطلي عليهم هذه الترهات والهرطقات؛ فقدموا المزيد من البراءات والتحديثات التي خففت وأسهمت في رفع المعاناة وضنك العيش عن المواطن الأوروبي. فيما لم تجن الكنيسة ورجالاتها سوى المزيد من الإلحاد بين الشعوب الأوروبية وابتعاد العموم عن المسيحية على اختلاف مذاهبهم وتياراتهم.

لم يعتقد صلاح الدين أن احتلال القدس على يد الصليبيين سوى معركة لا بد من الكر مرة أخرى، ولتحرير القدس. يقول المؤرخون إن منبر صلاح الدين جُهز في دمشق قبل تحرير بيت المقدس بعقدين. إنها الواقعية والتخطيط للمستقبل البعيد. البعيد عن كل ما يتعلق بالتكهنات والتوقعات لبعض من المهرطقين الذين ما زالوا بانتظار المخلص القادم من السماء.

وها قد دارت السنون وحل بمشرقنا ما قد حل بالأوروبيين لقرون؛ فالحروب المدمرة والصراعات غير المحدودة مشتعلة مستعرة، غير آبهة بما ستؤول إليه معيشة شعوب مشرقنا من دمار يتبع آلام وجروح عظام. من المذنب ومن المتهم؟ أيعقل أننا على شفا جرف سينهار ومن بعدها سننتقل للحياة الأبدية وهناك الخلاص؟ هل اقتربت المعركة الكبرى؟ طبعا سننتصر بها، أولسنا جيوش الخير التي ستحارب كتائب الشر! من المحزن أن تنتشر التنبؤات والتكهنات بين أفراد مشرقنا العربي، لتصبح الملاذ الأسهل والاكمل في تحقيق طموحات لا مكان لتحقيقها بصحبة هذا الواقع وفي ظل أنظمة شمولية وبلا آفاق. 

حقيقة لا أمانع في قراءة الكتب التي تتحدث عن قوم يأجوج ومأجوج، أو كتلك من قصص المهدي والدجال، إلا أنني لا أجد أي سبب للتعلق بها أو حتى الاهتمام بها بشكل مبالغ فيه؛ وما الإفراط والخوض بهذه المواضيع إلا دليل على الأزمة التي يعيشها مشرقنا العربي. ألم تكن الأحاديث النبوية الشريفة التي تتحدث عن نهاية العالم هي تلك التي بين أيدنا في يومنا هذا؟ ألم تكن روايات وقصص أقوام آخر الزمان أثناء فتح بيت المقدس وحين أمر الخليفة العباسي بإضاءة بغداد. إنها نفس الروايات والأحاديث؛ أما الاختلاف فهو في القادة والعوام لأقطارنا المشرقية.

 

فدمشق ومن ثم بغداد كانتا قبلة البشرية آنذاك في طلب العلم والنهل من مخزونهما الحضاري والتقدمي؛ فيما أصبح الغرب، صاحب السبق في سرد التنبؤات والتكهنات، يملك نظرة عملية وخططا مستقبلية بهدف التنمية المستدامة ولأجيال مقبلة؛ أما تكهناتهم ونبوءات نهاية العالم، فقد حرفت ودورت لتخدم اجندات الغرب السياسية، متماشية مع الواقع والتفوق الذي يتمتع به الغرب؛ ولتكن معارك الخير والشر في أرض العرب وحوض المتوسط؛ فمعركة هار مجدون التي ستعلن نهاية العالم على أرض عربية وفي قلب مشرقنا المدمر اصلا؛ أما مملكة السماء، فأرضها وسماؤها لا بد أن يغطيها السحاب الأسود في مشهد بائس لا تملك شعوب مشرقنا العربي منه شيئا.

كلما ضعف التخطيط المستقبلي المتين والمبني على أسس علمية وأضحى مستقبلا مبهما لا يمكن استشرافه، كلما ازداد تعلق العوام بآخرين يملكون هواية التكهن وربط الأرقام وفك الرموز والطلاسم
كلما ضعف التخطيط المستقبلي المتين والمبني على أسس علمية وأضحى مستقبلا مبهما لا يمكن استشرافه، كلما ازداد تعلق العوام بآخرين يملكون هواية التكهن وربط الأرقام وفك الرموز والطلاسم
 

أليس حريا أن تكون معركة هار مجدون في مكان آخر، بعيدا عن أوطاننا ومدننا؟ لماذا يصر الغرب الملحد على التشبث بتكهنات ونبوءات مدمرة تدور أحداثها في بلداننا. ألم يحن لنا كمشرقيين أن نعلن أن مصير مشرقنا من اختصاصنا وأن حروب العبثيين لا مكان لها في أرضنا؛ ولتبحث التيارات الدينية الإنجيلية في الولايات المتحدة وغيرها، وبكل هرطقاتها عن مكان آخر؛ لعل الولايات المتحدة المكان الأفضل والأنسب لاحتضان معارك كبرى، فولاية تكساس على سبيل المثال لا الحصر، مكان مثالي لتحقيق نبوءات الحروب المستعرة؛ فهناك متسع لجيوش جرارة، إضافة لمساحات شاسعة غير مأهولة، حيث ستتمكن كل الأطراف بهذه الحرب أن تتموضع وأن تتمترس بشكل جيد؛ إضافة لقرب ساحة المعركة لمعامل إنتاج السلاح بكافة انواعه. 

حقيقة.. إن التنبؤات وقبيلها وكل ما يتعلق بالمستقبل مثير للاهتمام وجاذب للعوام بكل الأحوال؛ إلا أننا نعتقد أن الشعوب المتقدمة وصاحبة الريادة لا تتعامل مع التكهنات والنبوءات إلا كمحتوى ثقافي، تاريخي وربما أدبي لا يمكن أن يقدم أو يؤخر بالخطط التنموية قريبة أو بعيدة المدى، وأفضل مثال لذلك كتاب نوسترداموس من القرن السادس عشر وغيره من الكتب والمخطوطات الكثيرة.

فكلما ضعف التخطيط المستقبلي المتين والمبني على أسس علمية، وأضحى مستقبلا مبهما لا يمكن استشرافه، كلما ازداد تعلق العوام بآخرين يملكون هواية التكهن وربط الأرقام وفك رموز وطلاسم لا تسمن ولا تغني من جوع؛ بل وأصبحت شعوبنا عضوا فعالا في محافل وطقوس "سبت الساحرات" المهلكة وجالبة الدمار. آن الأوان للواقعية والعقلانية في التخطيط المستقبلي، وإلا فالبديل هو ذلك الذي يحاكي ويدغدغ أرواح الناس بلوحات فيروزية جميلة، وحري بنا أن نستذكر الخليفة العباسي المعتصم بالله الذي أبى إلا أن يتم ما قد عزم عليه بالرغم من معارضة الكهان الذين نصحوه بانتظار نضوج الفاكهة. نعم السيف أصدق أنباء من الكتب.

خلاصة الأمر؛ لا بد من الإشارة إلى ان قادة مشرقنا في أغلبهم لا يملكون الخطط التنموية المستقبلية، ويجحدون بكل ما تجود به النبوءات وغيرها، فلا خططا غربية الطراز وعلمية، رسموا، ولا روايات روحانية صدقوا، ومنها اتعظوا؛ ولم يبقوا لشعوبهم المسحوقة إلا انتظار الخلاص القادم من السماء أو لربما من باطن الأرض أو البحر.. من يدري؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.