شعار قسم مدونات

من مولانا إلى ماجدة الرومي.. شيء من ميلاد ثان

مدونات - ماجدة الرومي
كانت سيارة "التويوتا" الخضراء تشق بنا مسالك مدببة في صحراء ممتدة إلا من جبال مترامية هنا وهناك.. رائحة حقائب الأمتعة تمتزج بروائح السجائر التي تُعتِّق كل شيء في هذه السيارة.. موسيقى "جيل جيلالة"(1) المغربية تخترق سكون المكان وتختصر اللحظة بوقع أغنية "إذا ضاق الحال".. 
   
لم يدر بخلدي البتة حينها أني أشق طريقا نحو قدر يطويه هذا الفضاء البكر بالنسبة لي.. بعد مسير ما يقارب الساعة من الزمن توقفت بنا السيارة وسط حيز مُسَيَّج.. تترامى به "شاليهات" صغيرة ومتوسطة يعوزها شيء من انتظام.. بعض فسائل وأشجار نشاز من الكاليتوس توفر بعض الظل.. وتحدث شيئا من انكسار في حمرة الرمال الطاغية.. استقبلنا بحفاوة وطلب مني أن أضع عني أغراضي الثقيلة.. وأرتاح.. بدت غرفته ثرية مقارنة بشاليهات أخرى.. ثلاجة، تلفاز، مكيف، مكتب.. خيّرني بين الشاي والقهوة.. فضلت الأخيرة رغم شغفي بالأول .. فالشاي اختصاص صحراوي، وصاحبنا أوراسي(2)..
   

لقد ألفيتني وسط عباب من أسئلة مشرعة حول نفسي والعالم.. ورغم أني لم أرسُ بعد على شاطئ لعلي يئست من وجدانه، فقد تلمست وسط العباب ذاته أجمل شواطئي

تبادلنا أطراف الحديث دون أن نتجاذبها.. لكن محمدا كان يريد بأسئلته الذكية غورا أبعد.. ذلك أن توجسا ربما ظل يسكنه إذ قدمت إليه مبتعثا لأكون نائبا له هناك.. لم يمض يوم حتى دعاني مرة أخرى.. لعله لمزيد تقرب وتقارب.. وفي ثنايا الحديث الذي تشعب بنا إلى الفكر، أتينا على ذكر "مالك بن نبي".. سألني دونما تردد: هل تعرفه جيدا؟ هل قرأت له؟ وكان للسؤال بيننا ما بعده.. فبالقدر الذي فهمت أني ربما أمام "بنبيست"(3) حقيقي.. فإن إلمامي ببعض فكره أيضا كان كافيا ليزيل عنه بعض توجسه الأول..

      
أثناء مطالعتنا لـ"مشكلة الأفكار".. كان يحدثني عن شغفه بتجديد الفكر وجديده، عن تجربته الجامعية، وعن مغامراته ثم عمله مستشارا تربويا في ليبيا.. عن محاولات التحاقه بالجامعة العالمية بماليزيا.. كان جريء الفكر نابض الأمل، وكأني به قد تلمَّس شيئا من شغفه وحلمه بيديه.. كان فيه شيء من جنون ممزوج بحكمة.. كان مثلا -وقد تآلفنا- يثب منتصبا على سريره ليحدثني باستفاضة عن معشوقته المتخيلة في صورة "ماجدة الرومي" المعلقة .. إن ملامح شخصيتها تسبي لبه.. فهي حسبه نابضة بالأنوثة وقوة الحضور.. وشيء من خانة خدٍّ وحَوَر عينٍ مُسكر.. لا يزال يجد في حواء منجما مهملا لم يحسن أغلب الرجال سبر أغواره..
   
شكلت لي أيام التفاكر القلائل التي قضيناها مع بعض هبة إلهية.. تحدثنا عن الفكر وعن التصوف، عن جمالية التجربة الدينية.. عن مولانا جلال الدين الرومي وإقبال، عن شريعتي.. عن حاج حمد وعالميته الثانية، تلك التي وعدني بنسخة مصورة لطبعتها الأولى، وبعض من مسودات أعماله.. وقد حصل. لم يزل محمد يردد على مسمعي أن لقاءنا لم يكن صدفة بل هو قدر.. وأي قدر.. "وعلينا أن نفهم أقدارنا ونعشقها".. والعجيب أنه ومذ افترقنا بدأت أشعر بزلزال فكري.. بل حتى وجودي.. أشعر به يجتاحني، لقد ألفيتني وسط عباب من أسئلة مشرعة حول نفسي والعالم.. ولا أزال.. ورغم أني لم أرسُ بعد على شاطئٍ لعلي يئست من وجدانه.. -رغم ذلك- فقد تلمست وسط العباب ذاتِه أجمل شواطئي..
   
ولا أزال أذكر عنه قصة المريد الذي أخبر يوما شيخه بكفره إذ أصبح.. فأجابه الشيخ متوثبا مزهوا: الله أكبر.. هذه بداية الإيمان.. ولا يزال صدى "فلا اقتحم العقبة" يتردد في أذني.. يتلوه على سبيل الحث على اختراق التصنيمات وتجاوزها.. ما زلت أنشد مع مولانا في رقصته على وقع شمس تبريز: "هذه النار فما قصتها.. أحرقت ما عندنا وقدتها".. رقصة توصل إليه سلامي امتداد الوصل بين "لا" و"نعم". كما يجدها وكما تعلمتها منه.. قبل عقدين من الزمن..
______________________________________________________  
(1): "جيل جيلالة" فرقة أغاني شعبية مغربية تأسست في 1972م.
(2): أوراسي نسبة إلى منطقة جبال الأوراس الجزائرية.
(3): "Bennabiste" تعني بالفرنسية أتباع ابن نبي عبر لاحقة "iste" المفيدة للملازمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.