رغم أن سوريا في تلك الفترة عايشت انقلابات عسكرية كثيرة: أولها كان انقلاب حسني الزعيم في 29 آذار/مارس 1949، تلاه انقلاب سامي الحناوي في 14 آب/أغسطس 1949، وبعده انقلابا أديب الشيشكلي في 19 كانون الأول/دجنبر 1949، وانقلاب 02 تشرين الثاني/نونبر 1951، لكنها بقيت محافظة على مسارها الديموقراطي سنين وسنين إلى أن جاء العقيد الحموي عبد الحميد السراج، أو "السلطان الأحمر" كما يسميه الصحفي غسان زكريا، الذي غير مسار سوريا السليم، وبدّد تجربتها الديموقراطية الناجحة، وقد كان أول من وطّدَ الحكم البوليسي في سوريا، وأول من فتح باب المعتقلات على مصراعيه أمام شبح التنكيل والتعذيب .
في مصر كان العام 1956 البداية الحقيقة لتنامي الشعور القومي العربي، وتأجج المشاعر الوطنية، وكان يرى السراج في شخصية جمال عبد الناصر، قائدا، عربيّا، جماهيريّا، لا منازع له في تلك المرحلة |
في مصر كان العام 1956 البداية الحقيقة لتنامي الشعور القومي العربي، وتأجج المشاعر الوطنية على يد جمال عبد الناصر خاصة بعد العدوان الثلاثي، وكان يرى السراج في شخصية جمال عبد الناصر، قائدا، عربيا، جماهيريا، لا منازع له في تلك المرحلة، فأخذ يدفع مع مجموعة من الضباط السوريين نحو الوحدة مع مصر، وكان له ما أراد عام 22 نيسان/فبراير 1958، حينما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر قيام الجمهورية العربية المتحدة، بإقليميها الشمالي والجنوبي، وسرعان ما عيّن السراج وزيرا للداخلية، من ثم نائبا له في سوريا، فقد كان يده التي يبطش بها، وعينه التي يرى من خلالها، وفي هذه المرحلة وصل السراج لذروة قوته، فقد مهر وأبدع في صناعة الخوف، وتَضلَّعَ في القتل والإجرام بدون رقيب أو حسيب، وبدأت معالم الدولة المدنيّة بالاضمحلال شيئا فشيئا، ولعل أفضل مثال على بطش وفتك السراج كان جريمة قتل نائب الأمين العام للحزب الشيوعي فرج الله الحلو تحت التعذيب وتذويب جثته بـ"الأسيد"، التي أثارت الرأي العام ضده حيث كانت من أفظع الجرائم التي يمكن أن ترتكب في ذلك الوقت .
بعد أن وصل السراج إلى القمة كان لا بد من السقوط. ولأن لكل بداية نهاية؛ كانت نهاية السراج على يد جمال عبد الناصر بعد أن فضَّل ابن جلدته وصديق كفاحه المشير عبد الحكيم عامر عليه، حيث استدعاه وطلب منه تقديم استقالته، كانت هذه بمثابة صفعة وصدمة قوية للسراج الذي امتثل لأوامر عبد الناصر و قدم استقالته في 22 أيلول/شتنبر 1961، قُبيل أيام من انقلاب الضابط الدمشقي عبد الكريم النحلاوي الذي أطاح بالوحدة وأدى إلى الانفصال في 28 أيلول/شتنبر 1961، وعلى الفور أصدر الانقلابيون قرارا باعتقال السراج وإيداعه في سجن "المزة" العسكري، ذلك السجن الذي كان مشرحة للأحياء خلال فترة حكمه، وكانت جدرانه تروي قصصا قد حيكت خيطان أحداثها من دمع ودم ولحم متناثر.
بعد ثمانية شهور قضاها السراج مع أرواح ضحاياه في سجن المزة، تمكنت المخابرات المصرية بمساعدة الزعيم اللبناني كمال جنبلاط واطلاع الرئيس اللبناني فؤاد شهاب من تهريبه ونقله إلى مصر، حيث استقبله جمال عبد الناصر في القاهرة استقبال الأبطال ومنحه الجنسية المصرية .
في يوم استقالته نفسه عام 2013؛ توفي السراج في القاهرة عن عمر ناهز 88 عاما، في يوم كان السوريون منشغلين فيه بخوض معاركهم السياسية ضد عائلة أخذت من السراج خصاله وأكملت بناء دولته الأمنية، وأضافت إلى مشرحة المزة مدفنة سجن تدمر ومقبرة صيدنايا، وطوّرت من أساليب قمعها وبطشها حتى وصلت إلى مرحلة الإبداع، هم هكذا؛ مجرمو سوريا إخوة في سفك الدم، بنوا دويلاتهم ورفعوا بنيانها فوق جثث السوريين، وشيّدوا أسوار قصورهم وعطّروا جدرانها بعرق السوريين، وعزّزوا اقتصادهم وسقوا قمحهم بدم السوريين، وما أكرم السوريين! حينما يتعلق الأمر بالدم .
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.