شعار قسم مدونات

حصن التراب.. رواية تاريخية فارقة

blogs حصن التراب

طلع علينا الكاتب المصري أحمد عبد اللطيف بتجربة روائية جديدة. رواية تمثل امتدادا لمشروعه الروائي الذي بلغ الآن خمس روايات؛ "حصن التراب" هو عنوان روايته الأخيرة التي دخلت القائمة الطويلة لجائزة البوكر لهذا العام.

العنوان "حصن التراب"؛ اختاره الكاتب للإحالة على مرجعية مكانية تاريخية، إنها قرية حصن التراب أو "إثناتوراف" (Iznatouraf) بالجنوب الإسبانيّ؛ قرية شهدت مآسي الأندلسيين الموريسكيين اضطهادا وتعذيبا وتهجيرا في النّهاية. "حصن التراب" رواية تاريخية بطعم تجريبي فني لافت، تشدّ القارئ منذ صفحاتها الأولى وتحثه على مساءلة المحكي والتاريخ لكشف ألاعيب المؤلِف وكيفية عرضه لمأساة العائلة الموريسكية.

بين التخييل والتاريخ:

يؤسس أحمد عبد اللطيف عالمه الروائي على موضوعة تاريخية لم تُشف منها الذاكرة العربية الإسلاميّة حتى بعد مرور أكثر من أربعة قرون. إنها موضوعة اضطهاد الموريسكيين وضياع هويتهم. بنى الكاتب متخيّله السردي على مخطوطات ومراسلات مُتخيّلة وليست تاريخية واقعية، هي مذكرات كتبها أفراد عائلة موريسكية مرَّ عليها إعصار المأساة الأندلسيّة. ستصير كتابة المذكرات تقليدا عند الأبناء والأحفاد، بل واجبا توارثوه كوصيّة من الجدّ الأوّل، حتّى انتهى الأمر عند السّارد الذي سيحمل همّ جمع هذه الأوراق ونسخها وترجمتها وترتيبها.

أثار الكاتب في "حصن التراب" مسألة الهوية الحضارية للإنسان الأندلسي الموريسكي خاصة ذلك المضطهَد الذي تمّ تهجيره، والذي يحمل الدماء الأندلسية، الدّماء المختلطة

الكاتب روى حكاية مورسكيين ناس عاديين لم تلتفت إليهم كتب التاريخ. عبْر التخييل جعل لعائلة "محمّد دي مولينا" تاريخا، عبْر المخطوطات السّرية التي احتوت سرّ العائلة والمذكرات المكتوبة التي امتدّ زمنها لأكثر من قرنين ونصف؛ سيواكب السّارد تاريخ الموريسكيين منذ دخول الكاثوليك إلى مدينة كوينكا وفرضهم على المدجنين والمسيحيين الجدد أن يلبسوا "ملوطة" خضراء، وذلك منذ 1443 كما في الرواية. مرورا بسقوط غرناطة سنة 1492، وصولا إلى تهجير الموريسكيين عبر البحر، بعد أن خُيِّروا بين التخلي عن دينهم أو التهجير.

 

حتى الذين تنصّروا كي لا يغادروا أرضهم لم ينجوا من التشكيك في ولائهم للدين المسيحيّ، فخضعوا لمحاكم التفتيش ولم يسلموا من أحكام الإعدام. إنّ الكاتب هنا جعل التخييل يتماهى مع التاريخ، حيث إن المرجعية التاريخية كانت متحكمة في نسج المذكرات وصياغة الأحداث ورسم الشخصيات وفقا للمعطى التاريخي، غير أنّ الالتزام بالتاريخ لم يمنع الكاتب من التحليق في أفق التخييل إلى أبعد الحدود.

سؤال الهوية الأندلسية:

أثار الكاتب في "حصن التراب" مسألة الهويّة الحضارية للإنسان الأندلسي الموريسكيّ خاصّة ذلك المضطهَد الذي تمّ تهجيره، والذي يحمل الدّماء الأندلسيّة، الدّماء المختلطة. هؤلاء -حسب قول الكاتب- "لا هم ينتمون إلى العرب الأوائل أو الأمازيغ الأوائل الذين فتحوا الأندلس، ولا هم نصارى كاثوليك". إنّ هؤلاء المورسكيين يتكلمون القشتالية، يحملون عادات وتقاليد الأرض التي وُلدوا فيها.

 

ونظرا لأصولهم العربية تمّ تهجيرهم بدعوى أنهم سيتحالفون مع العثمانيين الأتراك ضد التاج الكاثوليكيّ. إنّ مجمل الحكايات التي ترويها مخطوطات عائلة دي مولينا هي حكايات انتماء، حكايات هويّة، حكايات مطارَدين ومطرودين بسبب الشك في أنهم لم يتركوا دينهم الأصلي، وبأنّهم يمارسون طقوس الإسلام في السّر. وستمتدّ أزمة الهوية لتلاحق هؤلاء في الأرض التي هُجّروا إليها، حيث سيُنبَذون هناك ويُنعتون بأنهم مسيحيون ويحملون دماء إسبانيّة، ليظلّوا في النهاية بلا هويّة. 

من المخطوطة إلى روابط إلكترونيّة

الكاتب شغل لعبته السّردية القائمة على كتابة المخطوطات، وتتلخّص في توارث الكتابة، إذ على كل فرد من أفراد سلالة "دي مولينا" أن يتابع كتابة مخطوطات جديدة، وأن يورّثها مع ما سبقها إلى ابنه البكر، وهكذا إلى أن وصل الدور إلى ساردنا مرورا بسبعة أجيال وهي على التوالي:

ـــ جيل عبد الله بن محمّد، مع أخيه يونس (يونس اكتفى بكتابة رسالة)
ـــ جيل أبناء عبد الله: محمد ومريم وعاصم، مع فاطمة بنت يونس (عاصم وفاطم لم يكتبا)
ـــ جيل ابنَي مريم: عائشة و مروان كارلوس، ومعهم دييغو فيرنانديث بن فاطمة 
ـــ جيل ابني عائشة ومروان : مانويل ومانويلا (مانويلا لم تكتب)
ـــ جيل ابن مانويلا: خوان
ـــ جيل أبناء خوان: ميغيل، كارمن، خوانا. (خوانا لم تكتب)
ـــ جيل إبراهيم بن ميغيل

والملاحظ أنّ بعض أفراد عائلة دي مولينا لم تُنسب لهم مُذكرات؛ أي لم يكتبوها، واكتفى الكاتب بذكرر أسمائهم فقط، وآخرون لم تُذكر أسماء لذرّيتهم ولا رُوِيَتْ حكاياتهم. كما لم تُخضع المذكرات إلى ترتيب زمني أو منطق معيّن. هكذا جعل الكاتب من روايته وَرْشا لكتابة المذكرات التي من خلالها استطاع أن يرصد تاريخ العائلة الموريسكيّة، ليقول لنا إنّ هناك تاريخا موازيا لِما كتبه المؤرّخون. إنّه التاريخ غير الرسمي. 

"حصن التراب" تطرح تساؤلات للتاريخ، رواية فيها اشتغال عميق، فيها تجريب على المستوى الفني والتشكيل الهندسي، رواية وظّفت مختلف طاقات الكتابة السردية المتاحة بكفاءة عالية
 

وانسجاما مع لعبة المخطوطة، اعتمد أحمد عبد اللطيف جُملا قصيرة، سريعة الإيقاع، لاهثة، يحكمها التكرار بشكل بارز، فصارت لغته متوترة، مشككة، مراوغة، تنم عن تشكيك يطبع الشخصيات، والتباس ولا يقين يحكم السرد..

وأبرز ما يميّز "حصن التراب" ويجعلها رواية فارقة ليس في لغتها فحسب ولا في طريقة تشكيل المخطوطات فحسب، إنّما في توظيف وثائق وتقارير محاكم التفتيش، وهوامش تاريخية، وأشعار صوفية وأندلسية لابن زيدون وابن سهل الأندلسي وجلال الدين الرومي ولوركا وأنطونيو ماتشادو. كما ذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك لمّا أدرج بين ثنايا الرواية روابطَ إلكترونية لموسيقى وأغانٍ أندلسيّة وأفلام وثائقيّة حول الموريسكيين، وهذه المُرفقات السمعية البصرية أمر مُستجد فريد من نوعه في الرواية العربية يُحسب للكاتب. ففي بداية الرّواية نجد تنبيها من طرف الكاتب إلى أهمية هذه المرفقات، يقول: "تحتوي الرّواية على إشارات لِلِينكات موسيقية وأخرى لأفلام وثائقيّة لا يمكن قراءة الرواية واستحضار حالتها دون اللجوء إليها" .

أضف إلى ذلك تشغيل الكاتب للبناء الخيالي الفنتازي، خاصة في المقاطع التي تتحدث عن تحوّل الأبطال إلى أحجار وتماثيل، وفي تقمص الشخصية لجسد شخصية أخى.. وغيرها من التقنيات التي برع الكاتب في توظيفها بذكاء ووعي سردي رصين.

وهكذا فـ"حصن التراب" تطرح تساؤلات للتاريخ، رواية فيها اشتغال عميق، فيها تجريب على المستوى الفني والتشكيل الهندسي، رواية وظّفت مختلف طاقات الكتابة السردية المتاحة بكفاءة عالية؛ تظافرت فيها المخطوطات والصور والمشاهد والمقاطع الشعرية المرفقة لتضعنا في قلب مأساة الموريسكيين، رواية تعاملت مع التاريخ بنُضج وبشاعرية؛ دون أن تسقط في أسر البكائيات على الماضي. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.