شعار قسم مدونات

حالة طارئة.. فليركض الجميع

إنعاش القلب
كُلُّهم يٙذهبون ونبقى نحن كزٙهر اللّٙوز أو أجمل، تُنقّلُ ناظريكٙ بين ما لكٙ وما عٙليك، ويضيعُ فٙحوى الكِتاب في خاطريك، تُنادي لعلّ البعيدٙ قريب، لعلّكٙ ترضى بما في يٙديك، تُنادي بصوت خفيض مُريب، لعلّ الذي يعتريه يصيبُك، لعلّ الذي في يديه يُريبُك، ومن غير حبي يُنادي عٙليك، ويٙمضي بقُربكٙ بين يٙديك، أعودُ أقلّبُ فٙحوى كتابك، أزاودُ بيني وبٙين نفسي جٙوابك، فيمضي المُقدّسُ بين يٙديك، وتمضي العواصفُ في مُقلتيك، فتعلمُ أنّ الإلهٙ قريب، يُهدهِدُ روحٙك فتٙقول استٙجِب، ويصعدُ كٙلِمُك حٙدّ السّماء، ويصرخُ صدرُك بغير هُدى، لعلّ الإله يُلقي الجواب في راحتيك، نحنُ نُجاورُ الموت، كما يُطلبُ على يدينا الشّفاء، في كُلّ مرة تُرسلُ سماعاتُ المستشفى نداءها الأزرق "code blue".

يُطلق الفريق المخصّص لذلك قٙدميهِ للرياح، لبدء عملية إنعاش القلب والرئتين في مكان ما من أركان أي مشفى يقوم على هذا الكوكب، وتتطاير نظراتُ زوار المستشفى لأولئك الذين همّوا بالركض باتجاه مجهول لأجل نداء لم يفهموه ولكنهم أيقنوا بوجود خطر ما، ما أن تلتقطٙ أنفاسك حتى يأخذُ كل منّا دوره، فأسألُ نفسي من وصل أولا نحن أم ملك الموت، أأُوكِلت مهمةُ هذا الشخص إليه أم ما زالت لنا، وفي كُل دقيقتين أسأل نفسي السؤال ذاته.

القلبُ مخلوق عجيب، برغم غبائه وارتباطه الدائم بكل ما حوله، إلّا أنه المُحرك الوحيد لهذا الجسم المُترابِط، لا يقوى على إنقاذ نفسه، ولكنه إن تضرّر لا يُبقي ولا يٙذر

قد تستصغرُ يوما موقف الضاغط على صدر المريض أو المرسل للنفس عبر مضخة الهواء، لتجد أنبوبا يلجُ في قصبةِ أحدهم رغبة في إيصال النفس لرئتيه حتى وإن كان ملك الموت مُرافقا له، لكننا نعملُ معهُ حتى النّهاية، لا تعلمُ أحيانا أي صعوبة تلك التي تعتري قائد الفريق، حين يُعلنُ في كُلّ دقيقتين استمرار عملية الإنعاش، وأيّ انقباض يعتري صدره حين يعلمُ أن ملٙك الموت قد تمكّن من المريض الذي يجلسُ بين يديه، وأن القلب برغم الأدرينالين الذي ضُخّ إليه، والكهرباء التي صعق بها لن يعاودٙ النبض مرة أخرى، لن يفعلها، ويظهرُ ذلك الخط المتواصل بدون أي ذبذبة على الشاشةِ أمامك، مُعلنا ساعةٙ الوفاة، ساعة الذهاب إلى ما لا نهاية.

 

حين تحينُ النهاية، تُعلٙـنُ الوفاة، وعيون أخرى تترقّب ذاك الباب الموصد، لتعلم بأي الوجوه ستخرجُ إليها، لا شيء أصعب من نقل خبر الوفاة، من إعلانها، أنت، أنت فقط أنت الشخص الذي لن تُنسى النظرةُ في عينيك، والنبرة في صوتك، والرحمة في ملامح وجهك، ستُخبِرهم بالخبر الذي لن يعودوا بعده كما كانوا، لن يعودوا أبدا، سيصبحُ كُل واحد منهم شخصا جديدا، ليس بالضرورة أفضل، شخصا سيحملُ ثِقل العالم ليواجههُ من جديد، بمرارة جديدة، كم هو صعب أن تنقُلٙ خبر شخص لا تعرفه وصل بسيارة الإسعاف، في وقت لم تتوقعه، لأشخاص لم ترهم سابقا علّقوا حياتهم في تلك اللحظة على كلمة ستنقلها لهم. كلمة ستغير مجرى حياتهم للأبد.

وفي الوقت نفسه أنتٙ مُطالب بعدم البكاء، بكاؤك سيفهُم بعكس بكائهم، بعدم التأثّر لأن السرير التالي يحوي مريضا بانتظارك، جاء لسبب بسيط مختلف عن كُل الضوضاء التي في جوانح صدرك، جاء لرشح بسيط أو كحة عارضة، وعليك أن تضغط كبسة النسيان وتكتبٙ شهادةٙ وفاة لشخص خسر أول ما خسر بموته، خسر اسمه، خسر الشيء الأول، الذي يُمنحُ لنا، بتوقف قلبه.

فلسفة الجسد والروح شيء منهك، شيء يخبرك أن ما يحصل في هذا المخلوق المحكم المتقن الصنع، هو ما يحدث في هذا العالم تماما، فقط تفكّر.. تفكّر
فلسفة الجسد والروح شيء منهك، شيء يخبرك أن ما يحصل في هذا المخلوق المحكم المتقن الصنع، هو ما يحدث في هذا العالم تماما، فقط تفكّر.. تفكّر
 

القلبُ مخلوق عجيب، برغم غبائه وارتباطه الدائم بكل ما حوله، إلّا أنه المُحرك الوحيد لهذا الجسم المُترابِط، لا يقوى على إنقاذ نفسه، ولكنه إن تضرّر لا يُبقي ولا يٙذر، يضعفُ القلبُ أحيانا، يتفاعلُ مع بقية الأعضاء بشكل يكادُ يكون مُبالغا فيه، إلى الحٙد الذي يفقدُ فيه السيطرة، إمـا لضرر في صماماته الفاصلة بين حجراته القابعة في داخله، أو بانسداد أحد شرايينه القابعة على جداره المحاول دوماً إظهار قوته التي تتهاوى فجأة  مُعلنة انسحابه، وأحيانا ينصبُ مصيدة الضرر لنفسه، يحاولُ التكيّف مع هذا الواقع الذي لا يبرحُ يؤذي المتعاطفين معه، فيتسارع بطريقة تحبس النفس عن ذينك الانتفاخين القابع بينهما، عن الرئتين، فيتوقفُ فجأة لعلّ امتلاءه الصحيح، يأذنُ للرئتين بالامتلاء، معلنا تنفُّس الصعداء، ثمّ يمطرهُ الأطباء بشتى أنواع الكيمياء المُبتكرة لعل عقارا بينها يربتُ عليه، مهدِّئا من روعه، علّهُ يعيده وليدٙ لحظتها من جديد، أحيانا تُجدي هذه العقاقير، وأحيانا تكون الساعة قد حانت.

على عكس العقل الذي يُعلنُ ذكاءه حتى في أصعب الظروف، برغم هشاشته حفظ في أقصى غرفة في الجمجمة، حين يتضرّر يبعثُ لجنوده إلى كُل مكان، محاولا الإبقاء على مملكته، يسحب الدم عن الأطراف البعيدة ليحافظ على المراكز الأساسية، يحافظ حتى النهاية، قد يموت لُيُبقي شعبه، ولكن بموته يغدو كُلّ شيء باليا إلى حد غير مُحتمل، أتعلم أن الجسم بعيدا عن المعتقدات الدينية، الجسم يموت في النهاية لسبب واحد، لأنها وسيلة الدفاع الأخيرة، أقتل نفسك قبل أن تتلاشى بتدميرها. فلسفة الجسد والروح شيء منهك، شيء يخبرك أن ما يحصل في هذا المخلوق المحكم المتقن الصنع، هو ما يحدث في هذا العالم تماما، فقط تفكّر.. تفكّر..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.