لا بد من استياء يعم طبقات المجتمع كافة إزاء النظام لتشتعل الثورة. بخلاف ما يسبق إلى الوهم، لم يكن الاستياء عشية الثورة الفرنسية يقتصر على الطبقة الوسطى أو الثالثة كما تسمى، بل شمل الجميع. قال "تاين" أحد أبرز مؤرخي الثورة "كان صغار الإكليروس حاقدين على كبارهم، وكان أشراف الولايات حاقدين على الأشراف المقربين، وكان صغراء الأمراء الإقطاعيين حاقدين على كبرائهم، وكان سكان القرى حاقدين على سكان المدن".
ولا تكفي مساوئ النظام ولا تحريض الجماهير لنشوب الثورة إذا لم تصادف مبادؤها بيئة مناسبة (فساد، فقر، ضعف الحاكمين، كل ما يزيل احترام السلطة من النفوس) |
ليست مساوئ السلطة بحد ذاتها ما يشعل فتيل الثورة، ونحن نرى في الغابر والحاضر دولا قد جمعت سلطاتها بين كل مساوئ الأنظمة ولم تنشب فيها الثورة، لأن الأمة ترضى بالنظام القائم منذ زمن، وتستر العادة مساوئه التي لا تبدو إلا عند انعام النظر. من المفارقات العجيبة أن كثيرا من المؤرخين ذهبوا إلى أن الثورة نشبت ضد الملكية المستبدة، غير أن الواقع كما لاحظ لوبون "أن ملوك فرنسا عدلوا عن الاستبداد قبل انفجارها بزمن طويل".
إن الأفراد (الكتاب، المفكرون، النقاد الاجتماعيون) هم من يحضّرون الثورة، ويستعينون بالمنطق العقلي عندما يسلطون الضوء على مساوئ النظام الحاكم، وينسبون إليه آفات المجتمع، وفيما عدا أول الثورة يغيب دور المنطق العقلي، ولا يعم الاستياء ولا تتحرك الجماهير إلا بوحي المنطق الديني والعاطفي، ويبقى دور القادة أساسيا، ها هنا يكون الدور الأبرز للدعاية والتحريض بالحق والباطل، وقد انتبه المؤرخ "توكفيل" إلى ذلك عندما قال "إن الثورة الفرنسية ثورة سياسية قامت على نمط الثورات الدينية وتوغلت مثلها في البلاد بالدعوة والإرشاد"، وهكذا، على من يبغون الثورة أن لا تفوتهم هذه الملاحظة، وأعجب ما رأيناه في الربيع العربي الغفلة عن دور القادة والتعويل المبالغ فيه على المنطق العقلي عند الجماهير، وقد رأينا في مصر كيف انحسر المد الثوري على إثر ذلك وتم توجية الجماهير باتجاه دعم الثورة المضادة.
يترتب على هذه الرؤية موقفان سلبيان مضران؛ إما الوقوف مكتوفي الأيدي أمام الأنظمة الاستبدادية بغير عمل على إصلاحها، منتظرين القدر المحتوم الموهوم بنشوب الثورة، وإما نسعى إلى الثورة على السلطة التي تبدي استعدادا لإصلاحها، متجاهلين أن الثورة فوضى نفسية تستولي على فئات المجتمع، تستتبعها فوضى تسري في كل المجالات توجب مع زوال النظام فسادا كبيرا، فمن الحكمة أن نحاول تلافي الثورة ما دامت إمكانية التغيير ممكنة بدونها، وعلى المتحمسين للثورة أن يتواضعوا كثيرا وهم يتناولون باستخفاف الرأي الفقهي الإسلامي الذي لا يحبذ الثورة وينظر إليها بعين الحذر.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.