شعار قسم مدونات

في فلسفة الثورة.. خلاصة عن الثورة الفرنسية

مدونات - الثورة الفرنسية
ليس ثمة جدل بين المؤرخين أن الثورة الفرنسية من أعظم الحوادث التي أثرت في العالم الحديث، وشكلت المبادئ الأساسية للدولة الحديثة، وجدير بمن يروم اكتناه روح الثورات أن يقرأ الثورة الفرنسية في ضوء فلسفة التاريخ، عله يقع منها على ما ينير بصيرته، لا سيما ونحن نعيش فوضى فكرية عارمة في أعقاب الربيع العربي، وما تلاه من الحوادث الجسام، وهذا ما نرمي إليه في السطور التالية.
 
ولادة الثورة.. متى تندلع الثورة؟

لا بد من استياء يعم طبقات المجتمع كافة إزاء النظام لتشتعل الثورة. بخلاف ما يسبق إلى الوهم، لم يكن الاستياء عشية الثورة الفرنسية يقتصر على الطبقة الوسطى أو الثالثة كما تسمى، بل شمل الجميع. قال "تاين" أحد أبرز مؤرخي الثورة "كان صغار الإكليروس حاقدين على كبارهم، وكان أشراف الولايات حاقدين على الأشراف المقربين، وكان صغراء الأمراء الإقطاعيين حاقدين على كبرائهم، وكان سكان القرى حاقدين على سكان المدن".

كيف يعم ويتراكم الاستياء؟
ولا تكفي مساوئ النظام ولا تحريض الجماهير لنشوب الثورة إذا لم تصادف مبادؤها بيئة مناسبة (فساد، فقر، ضعف الحاكمين، كل ما يزيل احترام السلطة من النفوس)

ليست مساوئ السلطة بحد ذاتها ما يشعل فتيل الثورة، ونحن نرى في الغابر والحاضر دولا قد جمعت سلطاتها بين كل مساوئ الأنظمة ولم تنشب فيها الثورة، لأن الأمة ترضى بالنظام القائم منذ زمن، وتستر العادة مساوئه التي لا تبدو إلا عند انعام النظر. من المفارقات العجيبة أن كثيرا من المؤرخين ذهبوا إلى أن الثورة نشبت ضد الملكية المستبدة، غير أن الواقع كما لاحظ لوبون "أن ملوك فرنسا عدلوا عن الاستبداد قبل انفجارها بزمن طويل".

دور الأفراد والمنطق العقلي

إن الأفراد (الكتاب، المفكرون، النقاد الاجتماعيون) هم من يحضّرون الثورة، ويستعينون بالمنطق العقلي عندما يسلطون الضوء على مساوئ النظام الحاكم، وينسبون إليه آفات المجتمع، وفيما عدا أول الثورة يغيب دور المنطق العقلي، ولا يعم الاستياء ولا تتحرك الجماهير إلا بوحي المنطق الديني والعاطفي، ويبقى دور القادة أساسيا، ها هنا يكون الدور الأبرز للدعاية والتحريض بالحق والباطل، وقد انتبه المؤرخ "توكفيل" إلى ذلك عندما قال "إن الثورة الفرنسية ثورة سياسية قامت على نمط الثورات الدينية وتوغلت مثلها في البلاد بالدعوة والإرشاد"، وهكذا، على من يبغون الثورة أن لا تفوتهم هذه الملاحظة، وأعجب ما رأيناه في الربيع العربي الغفلة عن دور القادة والتعويل المبالغ فيه على المنطق العقلي عند الجماهير، وقد رأينا في مصر كيف انحسر المد الثوري على إثر ذلك وتم توجية الجماهير باتجاه دعم الثورة المضادة.

بيئة مناسبة
لا تكفي مساوئ النظام وتحريض الجماهير لنشوب الثورة إذا لم تصادف مبادؤها بيئة مناسبة (فساد، فقر، ضعف الحاكمين، كل ما يزيل احترام السلطة من النفوس؛ مثلا زوال التقاليد الدينية التي كانت أساسا للسلطة في المملكة الفرنسية مع تقدم العلم)، هذه البيئة تذهب باحترام السلطة من نفوس الناس، لتحل محله ثورة في النفوس مستعدة للظهور عند سنوح أول فرصة، وربما نادى المصلحون بالمبادئ الثورية ومر عليها زمن مديد قبل أن تلقى آذانا صاغية، وقد علل غوستاف لوبون سرعة انتشار مبادئ الثورة بين الناس أيام الثورة الفرنسية بأن "هذه المبادئ التي لم تكن حديثة، لم يظهر تأثيرها قبل حدوث تلك الثورة لعدم مصادفتها بيئة صالحة، وبتعبير آخر؛ إن المبادئ التي استهوت الناس أيام الثورة رددها البشر كثيرا في الماضي".

دور الجيش
في حال تراكم الاستياء بين فئات المجتمع كافة عند عموم مبادئ الثورة، يبدو دور الجيش حاسما في هذه اللحظة الفارقة. من المفترض أن ينحاز الجيش إلى الثورة باعتباره جزءا من المجتمع الساخط، لكن سير الحوادث لا يجري في المجتمعات مجراه في القوانين الطبيعية. ينبغي على الثوار أن يرصدوا بيئة المبادئ الثورية؛ هل هي صالحة لهذه المبادئ من كل وجه؟ وقد علمنا أن البيئة الصالحة للثورة هي التي يتلاشى فيها احترام السلطة من النفوس، أو هي التي يفقد فيها الناس ثقتهم بأركان المجتمع ومنها الجيش.
 

 الثورة حادث ضروري من بعض الوجوه إذا اكتملت عناصرها، ولكن تلافي وقوعها أمر ممكن بشرط استجابة السلطة لمطالب الإصلاح في الوقت المناسب؛ وهي لا تزال مستحوذة على احترام الناس
 الثورة حادث ضروري من بعض الوجوه إذا اكتملت عناصرها، ولكن تلافي وقوعها أمر ممكن بشرط استجابة السلطة لمطالب الإصلاح في الوقت المناسب؛ وهي لا تزال مستحوذة على احترام الناس
 
في حالة الثورة الفرنسية، قال نيكر حين افتتاح مجلس النواب "لسنا واثقين بالجيوش". وأن يدلي رجل بمثل هذا التصريح بملء فيه هو دلالة واضحة على تشكل بيئة ثورية مناسبة، وفي هذا دلالة بينة أيضا على استياء الجيش من النظام، وتشبعه بمبادئ الثورة، ومن ثم انحاز إليها. وهي مفارقة عجيبة، قال ريفارول "إن الذي قضى على الملكية هو تخلي الجيش عن الملك، وانتحال الجيش مبادئ الطبقة الثالثة". وقد رأينا في مشهد الثورة المصرية كيف آل الحكم إلى العسكر، وعدنا إلى المربع الأول، وذلك لما تنطوي عليه جوانح الشعب المصري من الإجلال والاحترام لمؤسسة الجيش، فرجعت مسألة البت في نظام الحكم إليها، وكان من سوء الحظ أن القادة العسكريين لم يكونوا من منتحلي مبادئ الإصلاح والتغيير.
 

شر لا بد منه
هناك رؤية مفادها أن الثورة حادث ضروري لا مناص منه، فليس على المستائين إلا الانتظار. يصح القول إن الثورة حادث ضروري من بعض الوجوة إذا اكتملت عناصرها، ولكن تلافي وقوعها أمر ممكن بشرط استجابة السلطة لمطالب الإصلاح في الوقت المناسب؛ وهي لا تزال مستحوذة على احترام الناس. وقد تساءل لوبون "أفلا يكون سير الثورة الفرنسية غير ما وقع لو دعى لويس السادس عشر بالحكمة والموعظة الحسنة، أو لو كان المجلس التأسيسي أقل جبنا مما كان عليه إزاء فتن الرعاع ؟"، هذا المجلس نازع الملك السلطة بسلطة الشعب، وكان له ما أراد، ثم ما لبث أن غدا ألعوبة بيد من هب ودب من الغوغاء المتكلمين باسم الشعب.
 
يترتب على هذه الرؤية موقفان سلبيان مضران؛ إما الوقوف مكتوفي الأيدي أمام الأنظمة الاستبدادية بغير عمل على إصلاحها، منتظرين القدر المحتوم الموهوم بنشوب الثورة، وإما نسعى إلى الثورة على السلطة التي تبدي استعدادا لإصلاحها، متجاهلين أن الثورة فوضى نفسية تستولي على فئات المجتمع، تستتبعها فوضى تسري في كل المجالات توجب مع زوال النظام فسادا كبيرا، فمن الحكمة أن نحاول تلافي الثورة ما دامت إمكانية التغيير ممكنة بدونها، وعلى المتحمسين للثورة أن يتواضعوا كثيرا وهم يتناولون باستخفاف الرأي الفقهي الإسلامي الذي لا يحبذ الثورة وينظر إليها بعين الحذر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.