شعار قسم مدونات

لماذا لا يصاب العالم بالقشعريرة؟

blogs - syria

تستفيقُ كُلُّ ذرةٍ في جسدِ طفلٍ وهو يرتعش قبل موتهِ في حربٍ لا تعنيه، تستيقظ حواسهُ كلُّها كما لو أنها لم تكن من ذي قبل، قد يشعرُ بالألم طويلًا دون أن يفهم ما يحصل له، ومن أين يتسرّبُ الألم إلى روحهِ الطاهرة؛ بسببِ صاروخٍ، قذيفة أو حتى رصاصة، وربما أيضًا لا يسعفهُ جسده الهشّ كي يواجه هذا العذاب، فيخمد الشعور فيه إلى الأبد وينتهي كلّ شيء بسرعة، ليصبحَ صورةً في صحيفةٍ ما، موقعٍ إلكترونيّ أو تلفاز، إن كان محظوظًا، أو بالأدق إن كان جسدهُ ملطخًا بالدماءِ بشكلٍ يكفي ليلفت انتباه العامّة.

هو على عكسِ من بلغوا من المعركةِ عتيا، فقد يشعرُ الجنديّ قبل موتهِ في المعركة التي قرر خوضها بإرادته بقشعريرةٍ مختلفة، ربما تكون الهزيمة أو النّصر، قد تكونُ برودة العمر الذي يحتضر أو فناء الأمنيات التي لم تصل في موعدها، وربما يكونُ الانتصار؛ الانتصار على عدوّهِ الأنانيّ القابع في جوفه، وربما تكونُ القشعريرة قهرًا على خسارتهِ في معركة لم يقتنع يومًا بأهميتها، فيقول قبل موته: "لقد تأخر الوقت للهرب"، وفي غالب الأحيان لن يكونَ محظوظًا بنيلِ رتبةِ شرفٍ بميتتهِ هذه إلا إن كان ذا رتبةٍ عسكريّة في بلادٍ أصبحَ بها الإنسانُ أبخس ما وُجِد، لن يكونَ حدثًا صحفيا إلا لصالحِ أجندةٍ ستسخدمه كجنديٍّ مسكين أيضًا، إنّه فردٌ فحسب!

أما عن قشعريرة المشاهد، القابعِ في مكانٍ يبعدُ عن كلّ هذا، الذي لا تصلهُ إلا الصورةُ المنتقاة على يد مديري وسائل الإعلام، فلا يرى إلا ما يريدون لهُ أن يراه، فيستحسن المصوّر هذه الصورة بدل تلك، ويقدّمُ الصحفيّ تلك الفكرة عوضًا عن هذه، ورغم اختلاف آراءِ الصحفيين والإعلاميين العرب عامةً في جلّ القضايا المصيريّة في المنطقة، إلّا أنّهم اتفقوا على نقلِ صور جثثٍ قضت في الحربِ، حتى ابتلت الشاشةُ العربيّة بالدماءِ.

مئات الآلاف من الجثث ما عادت تحرّك ساكنا لدى المشاهد العربي المعتاد على ذات المشهد الأحمر كل يوم، ليصبح عاريا من المشاعر بسبب هولها وحدتها

لقد أيقظت الطفلة هدى غالية في طفولتي كلّ ذرةٍ في جسدي، رأيتها عبر الشاشات العربيّة باكيةً مذبوحةً من الألم بعد أن قصف الاحتلال شاطئ السودانيّة في غزّة مستهدفًا عائلتها، استشهد أبوها وأمها أمام عينيها، إضافةً لإخوةٍ خمسة عام 2006، ركضت نحوهم مفزوعةً كأمٍ فقدت وليدها للتو، وبصوتٍ ما زال يزلزل كياني كلّما تذكرته وهو يستنجد بإيقافِ الكابوس الذي زرعهُ الاحتلال تحت قدميها لتنفجرَ صارخة "يابا.. يابا" في محاولةٍ منها لإيقاظهِ من الموت.

كطفلةٍ، انتابتني القشعريرة والبكاء الصامت، فقد كان هذا المشهدُ أحد أشهر المشاهد الإعلاميّة التي عايشتها في طفولتي، والتي تركت أثرًا في تركيبتي النفسيّة والفكريّة، ورغم حزني على استشهاد العائلة وصور جثثهم الملتقطة بسرعة في طقسٍ حار، كان المفترض بهِ أن يكونَ فصلًا للفرح، إلّا أنّ مشهدَ هدى وصوتها وهي تركضُ نحوهم كان أقسى من كلّ ألم عايشتهُ حينها.

هكذا تسببَ الأحياءُ في إيصالِ ألمِ الموتى الشهداء بكونهم جزءا من ألم الموت، وألم الموتِ هذا أصبحَ قضيّة هدى الطفلة، ليس فقط من منظور ما قالهُ غسان كنفاني "إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت.. إنها قضية الباقين"، بل لأنّ رسالة الموت هذه ليس قادرا على إيصالها إلا من زالوا على قيد الحياة، أمثال هدى، لتتحدث عن استشهاد عائلتها بأبلغ صورة (رغم جدلي حول صوابيّة تصويرِ طفلةٍ دون الاكتراث لخصوصيتها ومشاعرها)، ذلك أنّ أسمى طريقة للحديث عن الموت  هي من خلال الحياة، النقيض التامّ للعدم.

وبالعودةِ إلى سلوكِ تصويرِ الجثثِ والدماء وأساليب التعذيب، التي بلغت ذروتها في أحداث "الثورات العربيّة"، فإنّ مئات الآلافِ من الجثث ما عادت تحرّكُ ساكنًا لدى المشاهد العربيّ المُعتادِ على ذاتِ المشهدِ الأحمر كلّ يوم، بل على العكس، تنفرهُ في كثير من الأحيان من نشرات الأخبار ومواقع الأنباء، يضافُ إلى ذلك مئات المقاطع المصوّرة على يد المواطنين الصحفيين الذين يعايشون الأحداث، ما أتاح لكثيرٍ من المقاطع الانتشار على مواقع التواصل الاجتماعيّ دون رقابة لصحةِ مضمونها أو تقييم مهنيّ لها ولمحتواها، ليصبحَ المشاهد عاريًا من المشاعر بسبب هولها وحدتها، متبلدًا، باحثًا عن أخبارِ التسلية والترفيه بعد يومٍ مقيتٍ من العمل المجهد، بينما الفقر مدقع بغالبية البلدان العربيّة.

العنف السياسي المتاح دون حدود أو إطار انتقل عبر الإعلام ليحفز ويصعد من حدة العنف المجتمعي، ويسوّق سهوا بأن العنف حدث عابر وعادي
العنف السياسي المتاح دون حدود أو إطار انتقل عبر الإعلام ليحفز ويصعد من حدة العنف المجتمعي، ويسوّق سهوا بأن العنف حدث عابر وعادي

هُنا، قد يتذرّعُ بعضُ العاملين في سلك الإعلام بأنّ نقل الصورةِ الحقيقيّة هي واجبُ الصحفيّ، ولكن الصحفيّ والإعلاميّ يعمل أساسًا لصونِ حرّية وكرامةِ أبناءِ وطنهِ، فكيف يمكن تصوير أي إنسان بأصعب وأقسى الظروف المهينة له ولجسده، واختراق حرمتهِ كمصابٍ أو ميّت، وإيذاء مشاعر عائلته، ومن ثم نطالب الحكومات العربيّة بالحفاظِ على كرامتهِ؟ لا شكّ أن نشر صور القتلى يعتبرُ خرقًا للمعايير الأخلاقيّة للعمل المهنيّ، ناهيك عن كونهِ أحيانًا في الدول المتقدمة خرقًا للقانون، رغم عدم وجود قانون دوليّ واضح ورادع في هذه المسألة، والأقبح، تبريرنا بأننا نريدُ كإعلاميين عكس الصورةِ الحقيقيّة للطغاة، ونحن نفعلُ فعلَ الانتهاك، ولكن بطريقةٍ أنعم كالحرير دون أن ندري.

ورغم اختلافي الجوهريّ مع الإعلام الإسرائيليّ، إلّا أنّهُ لا جدل على قوّته عالميا ومحليا، حيثُ يمكنني عقد وجه مقارنة بسيط لفهم آلية عمل تأثيره، فهو لم ينشر قط صورًا لجثثِ مواطنيه أو حتى لحظة إصابتهم وهم أحياء. مقتلُ 3 شبان يهود في الخليل مثلًا، كانت حجةً في شن عمليّة عسكريّة على غزة عام 2014 تحت مسمّى "الجرف الصامد"، استمرت 51 يومًا، لتستعمل خلالها إسرائيل أسلحة محرّمة دوليًا، وتقتل أكثر من 2000 فلسطينيّ جلّهم من النساء والأطفال.

 رغم ذلك، لم ينشر الإعلام الإسرائيليّ على الإطلاق صورةً لجثث هؤلاء الشبان الثلاثة ليبين فظاعة الشعب الفلسطينيّ أو يبرر سبب دخولهِ الحرب، بل على العكس، حرصَ دومًا على إبرازهم بصورٍ سابقة تبيّن حياتهم السعيدة مع العائلة ولهوهم مع الأصدقاء، ليقول لشعبه وللعالم: "انظروا كم أن الفلسطينيين يغتالون الفرح والحياة التي نسعى لها".

هذا كلّهُ لا يساوي أيّ شيء أمام إيماني أنّ العنف المصوّر تأثيرهُ كالمخدر النفسيّ، يقومُ على شيئين قبيحين: رؤية العنف كمشهد يوميّ روتينيّ مفهوم ضمنًا في السياق السياسيّ الإعلاميّ، فبسبب اعتياديّة الدماء وأساليب العنف والقتل والإرهاب ما عاد للمشاهد سوى ضئيل المشاعر إزاء تلك المشاهد، ما يعني أنّ الهدف من بثها لا يتحقق، ولكن الأقبح أنّ هذا العنف السياسيّ المتاح دون حدود أو إطار انتقلَ عبر الإعلام ليحفّز ويصعّد من حدّة العنف المجتمعيّ ويسوّق سهوًا بأنّ العنف حدثٌ عابرٌ وعاديّ، وكأنّ الإنسان خرقة قماش قد تتمزق في أيّة لحظة. هنا يصبحُ الموتُ عاديا.. إلى درجةٍ لم تعد تسببُ أيّة قشعريرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.