شعار قسم مدونات

"ربيع قرطبة".. حين تكون الحياة ثمنا للخلافة

مدونات - تاريخ
يعود حسن أوريد الى الأندلس، ليس لاقتفاء شروخ الهوية المترحلة بين الضفتين، كما فعل قبلا في (الموريسكي)، ولكن لكي يدخل المطبخ السري للسلطة، ويبحر في عوالمها ودهاليزها وسحرها. لعبة السرد تقوم هنا على حكي "الحكم" خليفة المسلمين لمجريات حياته داخل القصر وليا للعهد ثم سلطانا، لكن هذا الحكي يتحول في الواقع إلى انسلاخ متأخر من الدثار الثقيل للسلطان (ص10)، ومحاولة لاسترجاع قليل من إنسانيته المفقودة! كيف تحول السلطة الحاكم إلى كتلة بشرية منزوعة الأحاسيس؟
 
يطالعنا هذا السؤال طويلا، ونحن في ضيافة بني أمية، على عهد الخليفة "الحكم بن عبد الرحمن بن هشام" الملقب بالمستنصر بالله. (302 – 366 هـ / 915 – 976 م) .الحكي والبوح يصبح محاكمة للسلطة التي لا تقوم إلا على اقتلاع الحاكم من طبيعته الفطرية. من أجمل ما علق في قريحتي من عبارات الرواية : "العجز عجزان تقصير في الأمر وقد أمكن، وعجز عليه وقد فات..".
 
تغوص الرواية في النفسيات المتقلبة التي تطبع الخليفة الذي يتولى الأمر، كيف يهذب طفلا ويقتل في نفسيته كل مقومات الإنسانية الرحبة، حتى ليغدو السؤال هنا ضروريا: هل تولي الأمر وإمارة الناس تشريف أم ابتلاء وشقاء وضنك!!
 
كان على الحكم بن عبد الرحمن أن يعي أن السلطة تقتضي بالضرورة مسارا من التخلي التصاعدي عن إنسانية الحاكم. ذلك "أن الله يختص السلاطين لجليل الأمر، لكنه لا يفعل إلا بعد أن ينزع منهم ما هو جميل في الحياة"

تُقتل في قلب ولي العهد عاطفة المحبة في مرحلة الشباب حين يقرر الخليفة أن يفقأ قلبه ويزوج هند التي سبت قلبه لأخيه عبد الرحمن في حفل يكون هو القائم عليه.. وتقتل في نفسه آصرة الدم والأسرة عندما ذبح الخليفة أخاه عبد الله بعد عصيانه أوامر الخليفة واحتجاجه على تدبيره لأمور العامة واشتغاله بالبذخ و الترف، ذبحه الخليفة بيديه أمام أعين أخيه ولي العهد صبيحة عيد الأضحى ولم يعر اهتماما لاستنجاده به باسم عاطفة الأبوة وآصرة الدم.. لم يكن يجيبه إلا بأن خروجه لم يكن على أبيه ولكن على خليفة المسلمين .. يقف "عبد الله" أخ الأمير «الحكم"، أمام والده الخليفة عبد الرحمن، وقد انكشف ارتباطه بدعوة للتشيع، مستعطفا رحمته، فيجيبه "أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر" قائلا: سبق السيف العذل. محدثك ليس أباك، وأنت لم تثر ضد أبيك، ولكن على الخليفة. ومن واجب الخليفة أن يحمي أمور الخلافة، ويقمع من يريد بها سوءا. (ص88)

  
ماذا يفعل بعدها "عبد الرحمن الناصر"؟ لقد بينت الرواية هذه المفاصلة الحادة بين الخليفة والإنسان. نشأ ولي العهد في هذا الجو من الضنك والوأد لكل عاطفة إنسانية مرهفة وكأنه يعد لأمر جم سيتحمله بعد أن يلي أمر المسلمين..يموت الخليفة ويتولى صاحبنا أمر الدولة وما لبث أن ذاب في نسق السلطة.. كان له صديقان مقربان درس معهما، جعفر وباشكوال، كان التنافس بينهما على أشده حول من يتقرب منه أكثر، كان باشكوال ذا رأي حصيف ونفس أبية، بقي في نفس الخليفة منه شيء من احتقار بعد أن كان يتجاوزه أيام الدراسة. حركه شعور الانتقام فأبعد باشكوال و أبقى على جعفر الذي كان يقبل أن يكون أداة في يد السلطان يقلبه كيفما شاء..
  
تكشف الرواية في ما بعد أن أخسأ الوجهاء هم أولئك الذين يطأطئون الرأس ويقبلون الذل على أنفسهم.. تكثر الأحاديث عن عدم زواج الخليفة ويكبر الخوف على استمرار نسل بني أمية فيتزوج جارية في القصر معاندا حب فؤاده وصباباته الأولى التي كانت في بدايات الشباب يوم دفن مشاعر الحب، بعد أن دعاه الخليفة إلى ترؤس حفلة خطوبة أخيه عبد المالك من حبيبته هند، ليعرف في ما بعد أن عبدالرحمن الناصر يريده لأمر جسيم لا يستقيم فيه حب ولا هوى! تزوج الجارية، وجراح الصبابة وهواه لهند التي حرم منها لم تبرأ أبدا.
 
undefined
 

تقف الرواية على مسألة بالغة الأهمية تكشف تناقضات السلطة، حيث إن تسيير أمور الدولة ليس أمرا سهلا أبدا، إنها منظومة من علاقات الولاء، الخيانة، الجشع، الطمع، المكيدة، الحرب، السلم، الحنان، العفو، الانتقام..

  
خرج الخليفة ذات ربيع قرطبة بولي عهده للصيد وقد نهته زوجته عن ذاك لمرض الولد غير أن الخليفة أراد ولي سره ذا شوكة قوية. نصبت الخيام في الأحواش الخضراء ليشرع في الصيد. يقع الولد طريح الفراش وقد ساءت حالته.. تعجز يدا الطبيب عن فعل أي شيء لإنقاذ ولي العهد وقد هال الخليفة المشهد.  يسأل ولي العهد أباه: ألست خليفة للمسلمين وأمرك سام ومطاع فلتنقذني من هذ السقم الذي أغشاني صريعا، لا أقدر معه على شيء.. كم تغري السلطة ملاكها بأنهم على كل شيء قادرون وأن بيدهم الأمر كله.. السلطة وهم استقر في مخيال من ملكها فملكته..
 
يغفو ولي العهد و يغفو بجانبه أبوه ويستيقظان على خبر رحيل فلذة الكبد وريحانة الفؤاد إلى حيث لا مفر، يرحل عن هذه الدنيا إلى الدار الآخرة.. يرحل بقرار سماوي لا يملك معه من يمرغ له الحشم و الخدم والرعية الأرض من تحته إلا أن يقول "إنا لله وإنا إليه راجعون".. تنقلب حياة الخليفة وتنبعث في نفسه جذوة النفس الإنسانية التي قتلتها فيه السلطة وأحيتها المحبة. بعض الصدمات تكون مؤذنة للبعض باستفاقة، ولكنها غالبا ما تأتي بعد فوات الأوان.
 
يعتزل الخليفة العامة إلا في ما يخص تدبير الدولة الذي أوكله لجعفر وابن عامر، الأخير أرسله للمغرب لرد تمرد الفاطميين. ليظهر الإنسان وينقشع الخليفة. يتذكر ظلمه لصديقه باشكوال وظلم أبيه لحبيبته الأولى هند التي تم ترحيلها جورا وطلقت من أخيه وفُرضت عليها الإقامة الجبرية في جزيرة "ميوركة". يسافر إليها طلبا للصفح، تجيبه بأنه إن كان يحدثها كخلفية فلا جواب له عندها سوى السمع والطاعة، وإن كان يحدثها كحكم الإنسان فتلك جراحات لن تندمل، وذاك امتحان فشل فيه بلا استدراك. 
   
undefined
 
تذكره بمكر التاريخ به وكيف أفقده لقبه كخلفية كل مقومات الإنسانية، تذكره بأخيه الذي ذبح أمام عينيه دون أن يملك الشجاعة ليفتديه من أوامر الخليفة، وتذكره بحبها له وكيف تخلى عنها بباسطة لأنها كانت أوامر الخليفة، وتذكره بأربعين سنة من العزلة عاشتها في هذه الجزيرة بقرار جائر من الخليفة طلقها من أخيه وهجرها، تذكره بصديق عمره الذي تخلى عنه ببساطة لأن شعور الحقد غلب عليه ولأن نفسه المتكبرة لم تقبل حصافة باشكوال وتفوقه، وتذكره بأسرار القصر التي وصلتها ولم تصل إلى الجناب العالي صاحب القصر.
  
تذكره بقتله لابن حامديس، قائد الجند، الذي تآمر عليه بدعوة من الحاجب جعفر، وتسأله من دون أن تنتظر منه جوابا: كيف استباح الخليفة دم قائد الجند وجبن سيفه على عنق جعفر المتآمر الأول وصاحب المكيدة، تذكره بأمور أخرى ستفجعه: "حتى ابن عامر الذي أدخلته لقصرك مؤدبا لولدك بإيعاز من جعفر واستحسان من زوجتك كان يخونك في قلب قصرك ولم يصلك شيء من كل هذا". 
لقد جعلوك يا حكم مجرد أداة بائسة في المنظومة.. هكذا كانت الرواية صوت الضمير حين يحاكم سطوة السلطان.
 
كان على الحكم أن يعي أن السلطة تقتضي بالضرورة مسارا من التخلي التصاعدي عن إنسانية الحاكم. ذلك "أن الله يختص السلاطين لجليل الأمر، لكنه لا يفعل إلا بعد أن ينزع منهم ما هو جميل في الحياة" (ص48).
  
"ربيع قرطبة" قالب روائي أنيق ربما تجاوزت بشكل كبير أكواما من الكتابات التي ظلت حبيسة نمط واحد مداهن للسلطان  في ما عرف بالآداب السلطانية التي تعج بها المكتبة الإسلامية، إنها محاولة جادة لإعادة بعث الروح في التاريخ على ضوء الواقع ونسج شبكة من العلائق بخيال إبداعي خلاق ولاشك أنها غير منفصلة عن سياقنا الذي نعيشه، من خلال طرحها أسئلة مؤرقة حول طبيعة السلطة السياسية القائمة على الإمامة والولاية والخلافة، خصوصا وأن كاتبها ضمته جدران القصور السلطانية داخلها فترة من الزمن، وتقلب في أتون السلطة فترات أخرى، قبل أن ينتهي به المطاف باتخاذ مسافة منها. إن الأسئلة التي طرحها أوريد في ربيع قرطبة أسئلة مهمة تظل عابرة للأزمان والحقب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.