شعار قسم مدونات

خيط رفيع

مدونات - رجل يمشي في الضباب
هو الذي نقف عليه، هو الذي يمتد بنا منذ النشأة حتى العودة، وها نحن نحث فوقه الخطى، فيكون تارة مساحات من الطمأنينة والثبات، وتارة ويكأنه غير موجود، فلا اتساعه يغير من حقيقه دقته، ولا اختفاؤه يغير من حقيقة وجوده، و أما نحن فلا نملك إلا السير عليه، مهما بدونا أقوياء غير مبالين، أو ضعفاء غير قادرين.
 

ينافح أحدنا عن فكرة تستحوذ على كيانه، ويضع لها الخطوط الحمراء، ويحيطها بسور المبدأ ويسيجها بخيانة التراجع، حتى إذا ما انشق الفؤاد عن فهم وليد، ونما للعقل تحليل جديد، أصبح الخط الأحمر باهتا، وبات سور المبدأ يبابا، وأصبح التراجع مراجعات محمودة، فإذا كل ما كنا نمتلك ونظن، لم يكن سوى خط رفيع من الفهم والفكرة.

 

ينبض القلب للقلب، وترنو الروح لصنوها، وترتقي الكلمات حتى السحاب، وتعانق الوعود حدود الموت، على أعتاب الحب المسفوح، ثم يحدث الشرخ، ويبين العظم، وتنسلخ الأرواح، وتذهب الكلمات أدراج القصائد، والوعود أدراج الرياح، وتتقلب القلوب، فيغدو الحب وجهة نظر، وتغدو نبضة القلب، لا أكثر من حظ، وقد عثر. واللقاء ابن صدفة، والأرواح رهينة التجند، والبوح رديف الندم، فتتساءل النفوس عن سر التعلق، والقدرة القادرة على التفرق، فإذا ما كان يظنونه حبّا عامرا ومحيطا زاخرا، لم يكن سوى خط رفيع، رفيع فقط.

 

قدر المعرفة التجدد، وقدر الفهم إعادة التولد، وكل ما نظنه إيمانا راسخ العقيدة، أو مبدأ عصيّا على المس، أو خطّا أحمر لا يمكن تجاوزه، إنما هو محطة الإدراك الآنية، وموقف القطار المؤقت

ثم تراه قد امتشق سلاح التحرر، وبادر إلى الانتفاض والتمرد، قد بحّت حنجرته في الميدان والشوارع، وسقط جسده بين الخنادق والبنادق، رافضا كل سبل التفاوض، حتى إذا ما دارت الأحداث، وتسلل شك الواقع إلى متانة الحلم، نفض غبار ركام القصف عن بَنيه، وذهب يصافح من أغرق بالدماء مواليه، وكشف عن ساق السجود لمضطهديه، ثم نظر إلى ما قاوم في ماضيه، فإذا ما ظنه طريقا مرصوفا بالمبادئ، خيط رفيع، لا يكاد يبين.
 
ولما اشتد السؤال براهب الصومعة، وقد كان قبل نهارات مضت، صاحب الصولجان والكتاب، وابن التفاسير والآيات، وحارس السور والإصحاحات، يُزبِد في النقاش، ويرمي بتهم الزندقة والهرطقة والتجديف. لما اشتد به السؤال، وحاكم في خلوة الصحوة كل ما وصل إليه، واستيقظ تحت وطأة الصدمة مما كان عليه، فإذا بإيمانه الصلب، يستحيل ظنا هشا، وصراطه المستقيم خطّا رفيعا.
   
وأما الذي أبى تسليم العقل للمسلمات، وحاكم كل ما يحيطه، من الخالق حتى المخلوقات، ونفى فكرة الوجود والتوحد، وعزا الأمر إلى الطبيعة والتولد، ورأى الكون أحداثا توالت، وتطورا يتلوه تطور؛ حتى إذا ما غاب في أبحاثه عن عيون الناس، وغرق في فكره الطواف، خرج من الباب الآخر مُسلّما لما استعصى التسليم له، ومؤمنا بما قضى حينا كافرا به، وموحدا بما ظن أنه ملحد له، وإذا حبل أفكاره الغابرة؛ خيط رفيع.

 

في قصة الخلق الأولى، يتمترس إبليس خلف مبدأ المفاضلة بين الطين والنار، وكما يقول الرومي لو أنه نظر بعينه الأخرى لنجا، لكنه نظر بعين العقل فرأى طينا يُخلق
في قصة الخلق الأولى، يتمترس إبليس خلف مبدأ المفاضلة بين الطين والنار، وكما يقول الرومي لو أنه نظر بعينه الأخرى لنجا، لكنه نظر بعين العقل فرأى طينا يُخلق
  
وعلى الضفة المقابلة من الأفكار، من يستند بثقة إلى حلوله الناجعة، ودروس الحياة الماضية، فتراه صاحب النظرة والتنظير، والخبرة والخبير، يصر على ما ينطق به من حروف وجمل، ويوطن نفسه على التمسك بها حتى آخر أمل، حتى إذا ما خاضت به التجربة عباب الحياة من جديد، تناثر أمام ما كان يصدح به، وانكسر على أبواب قواعده، فإذا به يتوارى من جمله القديمة، ويعلن البراءة من خلاصة تجاربه السابقة، وإذا كل ما كان عليه؛ خيط رفيع.
 

إن قدر المعرفة التجدد، وقدر الفهم إعادة التولد، وكل ما نظنه إيمانا راسخ العقيدة، أو مبدأ عصيا على المس، أو خطّا أحمر لا يمكن تجاوزه، إنما هو محطة الإدراك الآنية، وموقف القطار المؤقت، فلا بأس أن يحملك الفهم إلى هذه المحطة، ولا بأس أن يحصن الإيمان هدفك ومبدأك إلى حين، لكنه خط رفيع، إذا ما أدركنا أنه كذلك، فلا حدود لمساحات معرفتنا، لا قيود على مسارات إدراكنا، ولا معنى من تشبثنا المختوم بالتَّرْك.

 

في قصة الخلق الأولى يتمترس إبليس خلف مبدأ المفاضلة بين الطين والنار، وكما يقول الرومي؛ لو أنه نظر بعينه الأخرى لنجا، لكنه نظر بعين العقل فرأى طينا يُخلق، ولم ينظر بعين القلب، فلم يرَ روح الله التي نفخت فيه، فلم يسجد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.