شعار قسم مدونات

جحيم إدلب

blogs إدلب

قبل فترة قصيرة، وأثناء تواصلي مع مصور صحفي من محافظة إدلب عبر المسنجر، سألته عن سبب تراجع قوى الثورة في إدلب، بموازاة تقدمها في قرى عفرين ضمن عملية غصن الزيتون التي أطلقتها تركيا، فجاء رده ممزوجا بمخاوف حقيقية من وجود صفقة ما تفضي إلى دخول الجيش الحر عفرين مقابل دخول النظام وحلفائه إلى إدلب، ثم أردف قائلا: "إذا راحت إدلب معناه انتهت الثورة.. لكن لنتفاءل".

عندما تمارس لعبة الشطرنج، يكون الأمر صعبا في البداية، لكن عندما تنجح في السيطرة على الرقعة، وتلحق خسائر كبيرة في صفوف الخصم، تبدأ خطوتك التالية لحصر الخصم في مربعات معينة، حتى يسهل عليك تضييق الخناق عليه رويدا ثم تلعب النقلة الأخيرة وتنهي اللعبة. 

يمارس النظام السوري وحلفاؤه ما يشبه لعبة الشطرنج في مناطق سوريا، التي أضحت مجرد أوراق مقايضة في الملعب الدولي، صراع وتنافس شديدان، وتبادل مناطق وصفقات تفرض نفسها بتوقيع دماء الآلاف من السوريين، ومعاناة ملايين المهجرين داخليا وخارجيا. 

إدلب التي تحملت المجازر على مدى السنوات الماضية، تحولت إلى جحيم لا يطاق زاد من لهيبه تخاذل الفصائل الثورية وانقسام نخب الثورة إلى معسكرين

على مدى السنوات الأخيرة الماضية، عمل النظام على إفراغ المدن الثائرة من أهلها ضمن اتفاقيات تهجير قسرية، انتزعها من سيطرته على الأرض بمساندة العصابات متعددة الجنسيات، والدعم العسكري الروسي والإيراني، والدعم غير المباشر من قبل الولايات المتحدة ودول عربية بارزة، وتركزت معظم هذه الاتفاقيات على ترحيل قوى الثورة المسلحة وحاضنتها الشعبية من هذه المناطق إلى محافظة إدلب. كان كثيرون ينظرون للموضوع برؤية أعمق.. ستصبح إدلب قبرا جماعيا لهؤلاء بعد فترة وجيزة، إما بفعل عصابات النظام المدعومة من الاحتلالين الروسي والإيراني، أو بفعل الخلافات الفصائلية في بقعة لا تحتمل وجود هذا العدد الكبير من الفصائل والمسميات، والتي يجمعها الاختلاف فيما بينها أكثر من الائتلاف والتوحد.

عقب سقوط مدينة حلب بيد العصابات متعددة الجنسيات، وتهجير عدد من سكانها رفقة ما بقي من الثوار، وفق اتفاق تسليم المدينة، زادت أهمية إدلب كأبرز معقل للثورة وقواها المسلحة والمدنية، وبعد أشهر فقط حدث اقتتال بين قوى الثورة، وهذا ما كان يخشاه المواطنون، لكن القتال انتهى بسيطرة هيئة تحرير الشام على إدلب، بعد معارك مع فصائل أخرى آخرها مع حركة أحرار الشام التي آثرت الانسحاب من المناطق الحيوية، كما أسفر القتال عن تفكك في هيئة تحرير الشام بعد انفصال حركة نور الدين زنكي عنها، عقب اندلاع الاقتتال الفصائلي مباشرة، كانت تلك خطيئة لتحرير الشام في حق الثورة، وفرصة لخصومها من ناشطي التشبيح المعارض، لتسويق إدلب كمدينة حاضنة للإرهاب، يجب استئصالها من الخارطة، وهو خطاب يتماهى تماما مع خطاب الروس وإيران والنظام السوري. 

ما يحدث اليوم في إدلب، من عدوان روسي سافر على المدينة، وقصف الأحياء السكنية، والمراكز الطبية، بالأسلحة المحرمة والغازات السامة، إنما يأتي بعد حملة تشويه ممنهجة للمدينة وتركيبتها الثورية، شارك فيها محسوبون على قوى الثورة، علما أن المدينة كانت ضمن اتفاق أستانا لخفض التصعيد، الذي جرى برعاية كل من روسيا وإيران وتركيا، لكن قواعد اللعبة التي اقتضت لتركيا أن تبدأ عملية عسكرية لحماية حدودها، اقتضت أيضا للاحتلالين الروسي والإيراني رد فعل مواز في محافظة إدلب، معقل الثورة الأخير.

من المؤلم أن تتأمل الخارطة السورية، فتجد أن النظام وحلفاءه يسيطرون على أكثر من نصف مساحة البلد، وتليه قوات قسد بنسبة تتجاوز ربع مساحة البلد، بينما تسيطر قوى الثورة على أقل من سدس المساحة تقريبا، بعد أن كانت تسيطر على أكثر من نصف سوريا قبل أربع سنوات فقط، فيما بقي من مساحة الثورة تتربع محافظة إدلب الواجهة كحاضنة لقوى الثورة المدنية والمسلحة عن بقية المدن، وهو ما يجعل المدينة في مواجهة واقع أكثر مأساوية من أي منطقة أخرى. 

المشاهد المأساوية القادمة من إدلب، تعيد للأذهان مشاهد مدينة حلب وهي تنازع نبضها الثوري الأخير قبل أن يدخلها آل الأسد، بعد تخاذل الفصائل عن الدفاع عنها كما يجب
المشاهد المأساوية القادمة من إدلب، تعيد للأذهان مشاهد مدينة حلب وهي تنازع نبضها الثوري الأخير قبل أن يدخلها آل الأسد، بعد تخاذل الفصائل عن الدفاع عنها كما يجب
 

إدلب التي تحملت المجازر على مدى السنوات الماضية، تحولت إلى جحيم لا يطاق زاد من لهيبه تخاذل الفصائل الثورية وانقسام نخب الثورة إلى معسكرين؛ أحدهما يهاجم الفصائل المتهاونة عن قتال النظام، المستعدة لمواجهة فصائل أخرى معارضة للنظام، بينما يسعى المعسكر الآخر جاهدا لإثبات صلة المدينة بالتطرف ثم يتباكى على ضحاياها من المدنيين نساء وأطفالا ورجالا.. مخجل هذا الذي يحدث.

الفصائل الثورية في الغالب لم تعد تمتلك قرارها، الدوران في فلك اللعبة الدولية أفقدها البوصلة الثورية، وإذا أضفنا حالة التشرذم نجد انحرافا أكثر عن أهداف ومبادئ الثورة السورية، المواطنون لا يملكون شيئا لإيقاف الجحيم القادم من موسكو، يلجؤون إلى الله عند كل مجزرة تحدث، يناشدون ما بقي من الضمير الإنساني وما بقي من الضمير الثوري لفصائل الثورة للتحرك لإنقاذ حياة الملايين من سكان إدلب واللاجئين إليها من جهات سوريا الأربع، بين كل هذا الجحيم، يواصل زعماء المعارضة السياسية أو بالأصح المعارضة السياسية، -يواصلون- المتاجرة بالدم السوري، وحضور مؤتمرات تشرعن لسفك المزيد من الدم، والإبقاء على نظام آل الأسد المجرم. 

المشاهد المأساوية القادمة من إدلب، تعيد للأذهان مشاهد مدينة حلب وهي تنازع نبضها الثوري الأخير قبل أن يدخلها آل الأسد، بعد تخاذل الفصائل عن الدفاع عنها كما يجب، وتركها لقمة سائغة للاحتلالين الروسي والإيراني، إنه الخذلان الذي يسبق كل مدينة تسقط، وكل سقوط لقيم المتاجرين بثورة الشعب السوري. 

لا يزال في إدلب مجاهدون صادقون وثوار حقيقيون قادرون على حماية محافظتهم مهما وقف العالم في وجوههم، فقط إذا استعانوا بالله وتوكلوا عليه، وعزموا على القتال بشكل صادق، بعيدا عن الضغوطات والخضوع والارتهان للخارج وأهدافه التي تسير في اتجاه مضاد للثورة وتطلعاتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.