شعار قسم مدونات

الوعي ومركزية الإنسان (3)

blogs - man

"إن الوعي هو نقيض للوجود، يدرك نفسه بالتناقض مع كل شيء آخر عداه، ويكون حرا  بقدر ما يقف بمعزل عن كل شيء آخر، كل شيء على الإطلاق. ولكي توجد الحرية، يجب أن يكون الوعي شيئا قائما بذاته، في استقلال عن كل شيء، بما في ذلك المعرفة والأفكار. وهذه هي الإمكانية الوحيدة لوجود الذات، ووجود الحرية كخاصية لهذه الذات"- الوعي ومركزية الإنسان (1).

        

"لا وجود للذات في عالم محكوم بالعقل، سواء كان هذا العقل مفارقا، أو كامنا في صميم العالم  في صورة قوانين أو في صورة سببية شاملة تحكم الواقع المحسوس والواقع الذهني على السواء ، وإنما توجد الذات في مقابل كل هذا، كنقيض لكل ما هو موجود بشكل موضوعي، نقيض لكل ما تسري عليه السببية والقوانين وأي شكل من أشكال الإرادة العليا يُمكن أن يُوجد."- الوعي ومركزية الإنسان (2).

       

الوجود كمفهوم هو علاقة بين الوعي والأشياء، وليس خاصية ذاتية للأشياء. فعندما نقول مثلا إن "العالم موجود" فنحن لا نعبِّر عن حقيقة تتعلق بالعالم في ذاته، وإنما  نعبِّر عن وعينا به. ففكرة "وجود العالم" لا تعبِّر عن حقيقة متعلقة بالعالم كشيء مستقل بنفسه، بكونه موجود على أي حال، وإنما تعبِّر عن شيء في وعينا هو انفعالنا به من خلال الحواس والفكر. هذا لا يعني أن العالم وهم أو غير حقيقي ولكن يعني أن وجوده ليس خاصية ذاتية فيه بل هو علاقة وفكرة في الوعي. فكلما قُلنا أو فكّرنا في شيء ما كموجود، فنحن نعبِّر عن هذه العلاقة مع الوعي، ومن المستحيل القول أو التفكير في وجود أي شيء خارجَ أو بمعزل عن هذه العلاقة.  

          

غياب الحرية ونفي الذات لا يعني بالطبع أنه لن يكون هناك بشر، وإنما يعني أننا كبشر سنكون جزءا من العالم المحكوم بالضرورة أو بالفوضى

مثال المسطرة الذي تناولناه في المقال السابق سيكون مفيدا هنا مرة أخرى. لا يمكننا تصور المسطرة بدون خاصية الطول، وهذا يعني أن الطول خاصية جوهرية للمسطرة تدخل في صميم ماهيتها. ولكن يمكننا التفكير في مسطرة لا تملك خاصية الوجود، أي أن الوجود ليس صفة جوهرية للمسطرة، أي يمكن للمسطرة أن تكون موجودة أو لا تكون، ولكن لا يُمكننا أن نقول المثل بالنسبة للطول أي يُمكن أن يكون لها طول أو لا يكون لها أي طول، ففي الحالة الأخيرة لن تكون مسطرة ولا أي شيء آخر.

        

إذا اعتبرنا أن الوجود هو خاصية جوهرية للأشياء "الموجودة" فهذا يعني أنها لم ولن تفقد هذه الخاصية أبدا، بمعنى أنه، أي الوجود، يكون جزءا من جوهرها، أي أنها موجودة من "ما لانهاية إلى ما لانهاية "، ولكن الوجود على هذا النحو لا ينطبق إلا على "الوجود المطلق"، أي الإمكان المطلق للأشياء. وهذا الإمكان بحد ذاته فكرة في الوعي.

        

إن هذا "الوجود المطلق" هو الوعي نفسه، الوعي المحض الخالي من أي شيء عدا نفسه. هذا هو الذي يتبقى إذا اختفى العالم من الوجود بكل ما فيه ، أي إذا انتفت العلاقة بينه وبين الوعي، لن حينها نحصل على "الوجود المطلق" الفارغ كشيء خارج وعينا وإنما سنحصل على وعينا الفارغ من كل شيء. وهذا هو جوهر مركزية الإنسان.

     

و في المقال السابق أيضا تكلمنا عن الحرية، كنفي وكنقيض للضرورة، وكصفة جوهرية للذات ، بحيث لا يمكن تصور الذات بدون حرية، تماما مثلما لا يمكن تصور مسطرة بدون طول. غياب الحرية ونفي الذات بالتالي، لا يعني بالطبع أنه لن يكون هناك بشر، وإنما يعني أننا كبشر سنكون جزءا من العالم المحكوم بالضرورة أو بالفوضى. ولقد واجهنا هناك مشكلة "وجود الذات"، والتي انتهى بنا التحليل فيها إلى التدقيق في مفهوم "الوجود" وانتهينا إلى أنه مفهوم إدراكي يتعلق بالإدراك ولا ينفصل عنه، وليس خاصية واقعية، مثله مثل الصوت أو اللون، ولذلك فهو لا يُمكن أن يتعلق بالذات، أي أن الذات ليست موجودة، اللهم إلا بمعنى أنها مدركة لنفسها. وهنا أيضا يكون وجودها هو عبارة عن علاقة في الوعي، مثلما هو كذلك بالنسبة لسائر الأشياء الأُخرى التي نفكِّر فيها بوصفها موجودة.

           

إن غياب الوعي يعني التماهي مع الضرورة والإكراه، وفقدان الذات والروح، حينها يغدو الإنسان جزءا من العالم والأشياء
إن غياب الوعي يعني التماهي مع الضرورة والإكراه، وفقدان الذات والروح، حينها يغدو الإنسان جزءا من العالم والأشياء
   

إذن مركزية الإنسان هي أمر يحتمه وعي الإنسان. كل شيء بالفعل يُوجد بالنسبة للإنسان، بالنسبة لوعيه. ابتداءً من "وجود الوجود نفسه" إن صح التعبير. ولا ينبغي هنا الخلط مع المثالية الذاتية، فليس موضوعنا هنا الكلام عن واقعية العالم أو حقيقته ما وراء الوعي الإنساني، وإنما تأكيد مركزية الإنسان. ولقد أعلن كانط "دوران العالم حول العقل" كثورة وكانقلاب على رؤية "أن العقل هو الذي يدور حول العالم". بيد أن هدفنا  هنا ليس هو هدف كانط "ما الذي يُمكنني أن أعرفه"، وتعيين حدود العقل والمعرفة الممكنة، بل مركزية الإنسان.

        

هذه المركزية ليست تعبيرا عن سيادة أو سلطة الإنسان في مواجهة ما يُعتبر سلطة الدين أو سلطة الله، أو أي سلطة أخرى، وإنما هي وصف لعلاقة الوعي بالوجود، ولعلاقة الوعي بنفسه. ليس هناك مفر من هذه الحقيقة. وهناك عدة أمور تترتب على هذه النقطة المهمة، خصوصا بالنسبة للدين؛ -آمل أن أعود لها بشكل مفصّل-. هل هذه المركزية دلالة على محدودية الإنسان، أم أنها على العكس دلالة على لامحدوديته على اعتبار أن الوعي الإنساني هو الروح، وما أدراك ما الروح؟

         

لدي فرضية بأن الروح في الإنسان هي إمكان وليست واقعا متحققا في الإنسان دائما، وفقا لهذه الفرضية فإن السؤال أعلاه ليس له إجابة موضوعية محددة، وإنما هو أمر مرتبط بهذا الإمكان الذي يتراوح بين أن يكون الإنسان جزءا من العالم والأشياء بلا حرية ولا روح، وبين أن يكون الإنسان روحا حرة إزاء الوجود، منفتحة على الإمكانات التي لا يعرف حدودها أحد…

          

على المستوى المحدود يُمكن ملاحظة الفرق بين الحرية التي يمنحها الوعي بالمعنى الفكري لكلمة وعي، بما في ذلك الوعي بالضرورة وبالشروط والإكراهات البيولوجية والجغرافية والتاريخية والفكرية والثقافية الاجتماعية وحتى النفسية… إلى آخر الإكراهات التي تشرُط وتحد علاقتنا بالوجود والعالم، حتى لا أقول تحد وجودنا؛ فالوجود هو علاقة في الوعي كما بدأنا. فالوعي -وخصوصا الوعي بالإكراه والضرورة- هو دليل على الحرية ويؤدي إلى الحرية في الوقت نفسه، وما دمنا نعي بالإكراه والضرورة فهذا دليل على أننا أكبر من الضرورة وأكبر من الإكراه. وفي المقابل فإن غياب الوعي يعني التماهي مع الضرورة والإكراه وفقدان الذات والروح، حينها يغدو الإنسان جزءا من العالم والأشياء. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.