شعار قسم مدونات

من قالوا لا في وجه أدعياء افتروا على الصحافة

مدونات 0 الصحافة

تخيل أننا استيقظنا صباحا على عالم لا وجود للأخبار فيه، لا الصحف طُبعت ولا النشرات الصباحية تدندن، ولا شاشات التلفاز تحلل. العالم في صمت لا جدال ولا نقاش، ولا حاجة للمعرفة. أعتقد أن هذا أسعد أيام حكومات العالم الديمقراطية منها والمتطرفة، بعدما تخلصوا من صداع جماعة الصحفيين، ولكن في وجهة نظري ستقابلهم مشكلة أخرى، إذ سيكون عليهم البحث عن "شماعة" أخرى يسوقونها لشعوبهم، بعدما اختفت "شماعة" الصحافة التي تضخم وتهول وتنتقد.

    

المؤسف أن تجد من بين المدافعين عن الحريات وحقوق الإنسان التي من بينها حق الإنسان في المعرفة يشاركون في حملات ضد الصحافة وينساقون خلف تتبع نقائصها، ويخرجون باستنتاجات علاجية لهذه النقائص تتمنى زوال الفكرة أو المهنة، لرؤية وجه قبيح منها بفعل تحالف السلطة والمال وضعاف النفوس. لا أعني مطلقًا أن الصحافة فوق النقد لأنها بالأساس مهنة تحترف النقد، وهي الأولى به ذاتيًا قبل أن يأتي من الخارج، لكن كراهية الإعلام في ذاته هي إحدى سمات الدول الديكتاتورية والكيانات المستبدة المغلقة، التي تكره النور، وتعشق الغرف المظلمة المغلقة، وتتهم الساعين إلى إظهار جانب من الحقائق أو الواقع بالعبث أو بالتطفل.

     

المجد كل المجد لمن يجعل بوصلته الناس وليس رئيس أو مدير تحرير، ويعلم كل ذي شأن بالمهنة مدى صعوبة ذلك، لكن بدون هؤلاء ستختفي مهنة الصحافة فعلًا وستظل مهنة الاستسهال والتلفيق والتضليل

ليست فقط هذه الحملات التي افترت على مهنة الصحافة التي تكاد تعد إحدى الضمانات القوية الباقية لكبح جماح السلطة في أي مجتمع، وإنما من بين ثناياها يخرج الأدعياء إلى الواجهة ليُلوثوا مجهود آلاف وملايين، لذا نرى محاولات السيطرة عليها وتطويعها بشتى طرق الترغيب والترهيب حول العالم. الافتراء على  كامل المجال جاء أيضًا بسبب النماذج التي دنست حقيقة مهمتها المنحازة للإنسان، لصالح الحكومات ورؤوس الأموال، فالصحافة بها من الأدعياء والمتسلقين والوصوليين ما لا يمكن نكرانه، لكنها تحتفظ ولا تعدم أبدًا من يؤمن بحق الإنسان في المعلومة، من يدافع عن عدم تجهيل الناس، في وجه من احترف تزييف وعي الإنسان، والتجارة بآلامه.

    

جانب من المعاناة لا يُلقى له بال في الأوساط الصحفية، يتعلق بالمؤسسات الصحفية التي عادة ما تحتفظ كل واحدة منها بأجندة خاصة، وتلك طبائع الأشياء ولا يمكن ممارسة حالة إنكار حيالها، إذ إن هذه الصحف لا تمارس الصحافة للصحافة، لكن المعاناة اليومية لكل صحفي حقيقي وليس "دعي" في أن ينشر ما يُمليه عليه ضميره حين يصطدم مع هذه الأجندة أو تلك، حين يقتلع المعنى ويُحالف الالتفاف لإيصاله للقارئ، حين يدخل في صدامات الاجتماعات التحريرية لتمرير صورة إلى الجمهور؛ تلك هي معاناة من قالوا "لا" في وجه من قالوا "نعم" فقط لأكل العيش أحيانًا، وكثيرًا لمآرب أخرى تتعلق بسرعة الوصول، فهؤلاء من حفظوا للصحافة جزءًا من كرامتها أمام من يستخدمونها مطية، وليسوا سواء.

   

فالمجد كل المجد لمن يجعل بوصلته الناس وليس رئيس أو مدير تحرير، ويعلم كل ذي شأن بالمهنة مدى صعوبة ذلك، لكن بدون هؤلاء ستختفي مهنة الصحافة فعلًا وستظل مهنة الاستسهال والتلفيق والتضليل. ولمن يحلمون باختفاء الصحافة وإعدام الإعلام، ستظل الأخبار تنبض ما دام البشر. هذه حقيقة لا غنى عنها، فيما سيظل الصحفي لا المدعي يحمل هم إيصال هذه الأخبار للجمهور دون زيف، بينما سيعمل آخرون على إيجاد ما وراء هذه الأخبار لإعطاء القارئ صورة شاملة وحقه في المعرفة.

   

إن الحفاظ على هذه المهنة الآن من المدعين واجب أبنائها قبل غيرهم، والنضال من أجل الحفاظ على مساحات تغرد خارج أسراب الأنظمة حتمية، ودفع أثمان ذلك لا يوجب التوقف، وإخراس الألسنة يجب أن يزيد من الصمود لدى الجماعات الصحافية في الشرق الأوسط الذي يستهدف حرية الرأي والتعبير استهدافًا ممنهجًا، على خلفية إرادة تشكيل جديد للمنطقة برعاية قوى خارجية، ودور الصحافة في هذه الإرادة الجديدة أن تُخرس أقلامها عما يُحاك في الخفاء. فليقف كل من قالوا "لا" في وجه من يقولون "نعم" هذه المرة كما وقفوا قبل ذلك في أحلك الظروف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.