شعار قسم مدونات

كل ليلة تختفي الأشجار

blogs - heart of glass (1976)

عام ١٩٧٦ ظهر على الشاشة واحد من أغرب الأفلام في تاريخ السينما، فقد قام المخرج الألماني الشهير وارنر هيرزوج (Werner Herzog) بتنويم معظم ممثليه مغناطيسيا في فيلمه "قلب من زجاج" (Heart of Glass)، حتى يتمكن من الحصول منهم على الأداء الذي ينشده، فظهر أداؤهم شديد الغرابة والغموض. هذه ليست مزحة، فهذا ما حدث بالفعل!

   

الفيلم يروي قصة قرية في بافاريا Bavaria في القرن الثامن عشر مشهورة بتصنيعها لـ"زجاج الروبي" (Ruby Glass) وهو زجاج أحمر عالي القيمة والجودة، لكن رئيس العمال في مصنع الزجاج مات ومات معه سر تصنيع الزجاج لأنه الوحيد الذي كان يعرفه. هكذا أصاب القرية حالة من الاكتئاب والجنون بينما هم مهوسون بالبحث عن السر الضائع.

   

يقول المخرج وارنر هيرزوج: (أردت أن تبدو القرية في حالة من الجنون والضياع مع ضياع سرهم الذي يحقق لهم الربح المادي. أردتهم أن يكونوا أشبه بالسائرين نياما. وبالتالي أعتقد أن قرار تنويم الممثلين مغناطيسيا قد حقق التأثير الذي أردته. يمكنك أن تنوم الممثل مغناطيسيا بشكل عميق بحيث يصبح قادرا على فتح عينيه دون أن يستيقظ، بل ويمكنه أن يخوض حوارا مع ممثل آخر كذلك.)

    

معظم المشاهد تم تصويرها من لقطة واحدة، كعادة هيرزوج في أفلامه، وعندما كان يتم استخدام أكثر من لقطة لتغيير الزوايا فإنه كان يوقظ الممثلين ثم يغير من موضع الكاميرا والإضاءة ثم يخضعهم للتنويم مجددا

الكاتب والمخرج آلان غرينبرغ (Alan Greenberg) حضر تصوير الفيلم ثم قام بتأليف كتاب بعنوان، "كل ليلة تختفي الأشجار" (Every Night the Trees Disappear)، وتحدث فيه عن أسلوب هيرزوج العجيب في إخراجه لأفلامه وتحدث عن تجربة التنويم المغناطيسي بشكل مفصل.

   

حكي جرينبرج عن الإعلان البسيط لتجربة الأداء الذي قام به هيرزوج لاستقطاب ممثلين يرغبون في أداء مثل هذه التجربة، كان الإعلان من سطر واحد ولم يُذكر فيه اسم المخرج: "تجربة تنويم مغناطيسي سيتم عقدها بهدف اختيار ممثلين للاشتراك في فيلم سينيمائي". حضر ٧٠ شخصا من مختلف الأعمار والأشكال من الجنسين وقرروا خوض التجربة.

    

وقف المسؤول عن عملية التنويم المغناطيسي  "Thorwald Dethlessen" أمامهم وطلب من الجميع التزام الصمت والانتباه، ثم رفع يده وقال للجميع إنكم تشعرون الآن براحة كبيرة كما لو أنكم تطفون فوق السحاب، وكل شيء يبدو كحلم جميل، ثم بدأ يترنم بصوت جميل ترنيمة ذات قافية وتنبض كلماتها بالرقة والفصاحة وكأنها من الترانيم الأرثوذوكسية القديمة.

   

أشار بعدها لهيرزوج أنهم تحت التنويم المغناطيسي، فطلب منهم أن ينظروا إلى أعين بعضهم البعض ويتأملوا المشهد المرسوم داخل الأعين، ثم طلب منهم وصف ما يرونه. بدأت فتاة جميلة ورقيقة بوصف ما تراه فهمست: "أرى غابة جميلة، غابة بها جميع أنواع النباتات والأشجار وجميع أنواع الطيور التي تمكنت من الطيران يوما.، في كل صباح تغير الأشجار مكانها، فالغابة كل يوم لها شكل يختلف عن اليوم السابق، وكل ليلة تختفي الأشجار، وتبقي فقط الطيور النائمة، والطيور النائمة تقف على حراستها أروع الحيوانات التي تطوف في كل مكان".

   

رصد جرينيرج بعض الحكايات العجيبة أثناء التصوير، فمثلا في أحد المشاهد المتعلق بأربعة فلاحين، قام هيرزوج بتنويمهم مغناطيسيا بنفسه بعد أن لقنهم ما سيقولونه، ثم قال لهم: "أنتم تقفون الآن على أرض سماوية وعندما تفتحون عيونكم ستجدون عمالقة مخيفين، سترتعش أطرافكم من شدة الخوف، لكن مهما كان الخوف الذي تشعرون به فثقوا أنكم في أمان".

   

عندما بدأ التصوير وارتعشت أجساد الممثلين وصار عليهم أن يقولوا سطورهم، مر الأمر بسلام مع أول ثلاثة ممثلين لكن الممثل الرابع بقي يرتعش من شدة الخوف غير قادر على النطق. كان عربيا بالمناسبة واسمه أحمد ومن لبنان، عند إعادة تصوير اللقطة حدثت نفس المشكلة ولم يستطع أحمد النطق، في المرة الثالثة قال أحمد جملته وانتهى تصوير المشهد، لكن مشكلة جديدة حدثت، فعندما تم إفاقة الممثلين من التنويم المغناطيسي، تم إيقاظ الأول والثاني بسلاسة، بينما كان الممثل الثالث غير قادر على النطق لبعض الوقت، أما أحمد فقد بدأ يفقد وعيه بمجرد إيقاظه، لكن هيرزوج استطاع إسعافه. طلب بعدها أحمد سيجارة وصار في صحة جيدة.

      

      

معظم المشاهد تم تصويرها من لقطة واحدة، كعادة هيرزوج في أفلامه، وعندما كان يتم استخدام أكثر من لقطة لتغيير الزوايا فإنه كان يوقظ الممثلين ثم يغير من موضع الكاميرا والإضاءة ثم يخضعهم للتنويم مجددا، ولم يخضع جميع الممثلين للتنويم المغناطيسي، فالشخصية الرئيسية في الفيلم، "هياس" (Hias)، لم يتم تنويمه مغناطيسيا، وذلك لأنه في القصة يمثل دور العراف الذي يتنبأ بالمستقبل، وقد تنبأ بحريق يصيب مصنع الزجاج ويقضي عليه تماما، بينما أهل القرية لا يستمعون إلى تحذيراته في ظل هوسهم بإيجاد سر الزجاج المفقود. كما لم يخضع بعض متخصصي صناعة الزجاج المحترفين للتنويم المغناطيسي أثناء اللقطات التي ظهروا فيها في الفيلم.

   

التنويم المغناطيسي خلق بالفعل حالة من الجنون يمكنك أن ترى آثارها على الشاشة، فالممثلون عندما يتحاورون فإنهم لا ينظرون إلى بعضهم البعض، ونظراتهم شاردة وخاوية كالزجاج، وكلامهم بطيء وخالي من المشاعر وردود أفعالهم ثقيلة. القرية بالفعل تبدو وكأنها قرية من السائرين نياما.

   

تحدث جرينبرج مع والدة هيرزوج التي ذكرت الوحدة التي عانى منها منذ طفولته فقالت: "إنه لا يستطيع أن يتواصل مع الآخرين بشكل جيد، ولا أذكر أنه كان لديه صديق مقرب في طفولته، ربما لهذا السبب هو يصنع الأفلام". وقال روجر إربت (Roger Ebert) الناقد الأميركي الشهير: "إن هيرزوج لم يصنع فيلما واحدا لأسباب براجماتية مادية، لم يصنع فيلما يخجل منه ولم يصنع فيلما مملا، حتى لحظات فشله كانت خلابة".

   

ويقول هيرزوج عن فيلمه هذا: "أعتقد أن التجربة كانت منطقية وتستحق المغامرة، ولم أسمع عن أي مخرج آخر قام بشيء كهذا من قبل". وارنر هيرزوج هو مخرج أفلام سينيمائية ووثائقية، حصل على عدة جوائز عالمية مثل جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان عام ١٩٨٤ عن فيلمه "Fitzcarraldo"، ويعتبر من أهم مخرجي السينما الألمانية عبر تاريخها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.