شعار قسم مدونات

فبراير اليمن وأولئك … حكاية لم تنتهِ

مدونات - اليمن الثورة اليمنية

في ذكراها السابعة، تثير فبراير اليمن الجدل مجددا، وتحرك السواكن ويكأن العواصف قد هدأت والأحداث قد استقرت. بالنسبة لي قدرتها المتجددة على بث روح الإصرار والتحدّي بين أبنائها، قدرتها على بث روح التضحية مجددا بين أتباعها، رغم كل التشويه والانتقاص الذي تعرضت وتتعرض له وبرغم كل محاولات إلصاق التهم بها باعتبارها المسؤولة الوحيدة عن كل ما نحن فيه ،فهذا خير دليل على عظمتها وحيويتها.

  
بالنسبة لي، كانت الثورة حتمية منذ البداية بسبب كمّ الفساد الذي كنا نشاهده بأم أعيننا ولم يحكِ لنا أحد، فساد منظومة الحكم، وتحكم الرئيس السابق وأسرته بجوانب الحياة السياسية والاجتماعية بفساد يزكم الأنوف، لا ينكره إلا مكابر أو منتفع، وعجزه عن إيقاف متسلسلة الفساد وشبكة المصالح التي كان يستعين بها لإدارة شؤون حكمه، حتى لو أراد ذلك، ورقصِهِ على رؤوس الثعابين كما كان يردد. كانت اليمن بحاجة لأكثر من ثورة لإيقاف انفجار الفساد الانشطاري، والبديل هو صاعقة من السماء أو عذاب أليم لو كنا في زمن الأنبياء والمعجزات، بغض النظر أيضا عن كل التداعيات التي تلت فبراير والتي تتحمل الثورة المضادة جزءا كبيرا منها إلى جانب مسؤولية فبراير، فليس من الشهامة تحميل المسؤولية للثورة كردة فعل على ذلك الفساد وتناسي الفعل الأصلي المؤدي إلى كل ما حدث.

 
قليل من التفكير حسب قواعد ثابتة التفكير، كان سيوصل إلى نفس النتيجة ولو بعد حين، فالذين يعجزون عن التعامل مع الأحداث حسب مبدأ شديد البساطة وهو العدل والمساواة والإنصاف، سيكونون أشدّ عجزا عن التعامل مع أحداث معقدة لاحقة بحسب مبادئ أشد تعقيدا، فالبصيرة تعني القدرة على استشراف الأحداث بحسب المبادئ الثابتة، والحكمة معرفة التعامل الصائب والعجز ألا تملك أيا منهما .

 

وإن اختلفنا في مبررات قيام ثورة ما -وهذا طبيعي- لكننا غالبا لن نختلف أن الظلم وضياع الحقوق وانعدام العدالة والمساواة أسباب كافية لانهيار أقوى الأمم، بثورة أو بدونها

أولئك، الذين احتاجوا إلى ما يسمى بثورة 21 سبتمبر ليُدركوا الفرق بين الثورة السلمية والانقلاب المسلح، الفرق بين الحراك الشعبي وبين الحراك الموجه، الفرق بين المواجهة بصدور عارية وبين ميليشيات خارج المدن باسم ثورة الجرعة، الفرق بين الصبر على قمع المؤسسات الأمنية للمظاهرات وبين الاعتداء على مؤسسات الجيش والشرطة وإهانة شرفها العسكري عمدا وتحويلها إلى إقطاعية أسرية، الفرق بين وقوف فئة من الجيش مع الشعب وبين تسليم فئة أخرى كل مفاصل الدولة لعصابات نكاية في البعض، أولئك لن يستطيعوا التمييز في الأحداث القادمة ورؤية الفتن عند نشوئها إلا بعد أن تصبح جذعة يبصرها حتى الأعمى، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.

 
أولئك، الذين احتاجوا إلى الحرب والدماء ليدركوا حجم أموال الشعب التي دفنت في بطون الجبال وخلف أسوار المعسكرات التي تخدم الأسرة فقط، وليتها خدمت الأسرة حتى النهاية، واحتاجوا لسنوات حتى يدركوا حجم الثروات والأموال التي ابتلعتها بطون مشائخ الفيد وأرصدة الأتباع لشراء الولاءات، أولئك لن يعدموا المبرر لأي طاغية لاحق مهما تغيرت المسميات.

 
أولئك، الذين اقنعوا أنفسهم أن صالح سلم الدولة لهادي سلميا ثم تعاموا عن تحالفه مع أعداء الجمهورية، نكاية أيضا، كانوا بحاجة إلى حرب كاملة المعالم تنهار فيها أضغاث أحلام الانتهازية السياسية وتسقط فيها أوهام المكر السيء الذي لا يحيق إلا بأهله ولو بعد حين، وتنال يد المكر والغدر حتى ممن رعاها من الأقوياء فضلا عن الأتباع والرعايا.

 
أولئك الذين حكموا على فبراير من خلال اختلال توازن حياتهم الشخصية ومن خلال تغير درجة الرفاه التي كانوا يعيشون فيها مهما كانت معاناة سواهم، والذين فقدوا مناصبهم ومكاسبهم التي حصلوا عليها عن طريق منظومة الفساد وتبادل المنافع مع الفاسدين، بالطبع سيرفضون فبراير وسيجدون ما يبرر لهم رفضهم، لكن الأيام لن تتركهم قبل أن يضطروا إلى عكس مسار الدفة بحسب اتجاه الرياح وحينها لن يصدق أحد مزاعمَ وطنيتهم المغمسة بالأنانية وعرق الفقراء.

 
أولئك، الذين شاهدوا الظلم وهو يجتاح القرى والمدن، دون أن يحركوا شفاههم ولو بمجرد همهمة خافتة، وانتظروا إلى أن حل الظلم بساحتهم فملأوا الدنيا عويلا، وأولئك الذين سكتوا عن كل المظالم التي تسري في أرجاء الجسد اليمني الهزيل الفقير بصمت، فلما ظُلِم ذوو الواجهة والمشاهير من المسؤولين وأصحاب المنابر تضامنوا معهم، هؤلاء وأولئك سيصمتون مجددا عن كل ظلم آتٍ بمجرد عودتهم لشبكة المنافع وينابيع المصالح الشخصية المدرارة، فلا تحزن عليهم ولا تكُ في ضيق مما يمكرون .

    

undefined

  
أولئك، الذين اتهموا فبراير بكل التهم وسارعوا في جلدها بدون دليل، صمتوا صمت القبور عندما كررت المليشيا ذات التهم وبصورة أكثر فجاجة ووقاحة وبالاعتماد على تسامح الشعب اليمني، ولم يكتفوا بالصمت بل أطلقوا العنان للتبرير للغزاة الجدد بمبررات ما كانوا ليصدقوها، حتى ولو كانت صادقة، في حال ما كانت لشباب فبراير، ولم يعلموا أن الزمن سيدور عليهم حتى يمارسوا نفس الخطأ وأن الزمن هو من سيفضح ما في النفوس ويكشف الخفايا، ولو كانت في قعر ظلمات السياسة السحيق، ولله في خلقه شئون.

 
أولئك، الذين تلونوا وتبدلوا، ثم تلونوا وتبدلوا، ليأكلوا من كل الموائد ويركبوا كل الأمواج، حسبوا أنلا تكون فتنة أخرى، تبدي ما في نفوسهم وتُبدي ما كانوا يحذرون، فعموا وصمّوا، ثم عموا وصموا كثير منهم، والله من ورائهم محيط، أطال الأمد حتى يبدي السرائر، وحتى يأخذ بحق المظلوم ممن ظلمه وممن سكت على الظلم استحسانا لقوته ومكره، ولو طال الأمد، وإن يوما عند ربك كألف سنة، وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .

 

لعلّنا ندرك بتعاقب الأحداث أن فبراير هي معركة مؤجلة، منذ سبتمبر الأم، ومهما كانت فداحة نتائج قيامها، فهي أقل فداحة من نتائج وأدها الذي حول اللعبة إلى لعبة أممية ليس لنا فيها إلا الأرض والاسم

أولئك، الذين يتربصون بفبراير، فإن أصابها خير قالوا ألم نكن معها، وإن طالتها يد الثورات المضادة، أو تجاذبات السياسة الدولية قالوا لهم إنما هم شرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون، وأولئك الذين استغلوها للنجاة أو استغلوا موجة الثورة المضادة اللاحقة لتمرير مكاسب، حتى ولو كانت مشروعة، لكن المكاسب الشريفة لا تنال إلا بشرف، ليعلموا أن الله لا يصلح عمل المفسدين، فلا يجربوا المجرّب ولا يأمنوا مكر الزمان .

 
أولئك الذين كرهوا التغيير درءا لفتنة عاجلة تنال أجيالهم، وآثروا تأجيلها إلى فتنة آجلة تقضي على مستقبل أبنائهم، لم تدُر عليهم دورة الأيام حتى عرفوا أن الفتنة كل الفتنة هي في المداهنة والمراوغة، وأن تفسيرهم لنصوص الشريعة حسب رغبة المتغلب، لن يعفيهم من المواجهة يوما ما، وأن ثمن الحق مهما كبر أقل بكثير من ثمن النفاق والتزلف.

 
أما أولئك الذين ناصروا فبراير وسواها للانقضاض عليها من الخلف، أو لإنشاء موطئ قدم في السلطات القادمة، أو حاولوا وربما نجحوا في تحويل مسارها السلمي إلى المسار الطائفي المدمر، فمنهم من لا يخفى شره على أحد، ومنهم من يتلبس مسوح الرهبان، والأيام كفيلة بإظهار الأضغان، وتطهير الجسد من الشوائب، وما طول المدى إلا لإظهار الخبيث من الطيب.

فبراير، وأولئك، حكاية لا تنتهي..

 
وأزعم أنه وإن اختلفنا في مبررات قيام ثورة ما، وهذا طبيعي، فإننا غالبا لن نختلف أن الظلم وضياع الحقوق وانعدام العدالة والمساواة أسباب كافية لانهيار أقوى الأمم، بثورة أو بدونها، ولعلنا -لو أزحنا غشاوة التعصب- أن ندرك بالمقارنة بما حدث لاحقا أن فبراير كانت أقل العمليات الجراحية ألما، إن كان لا بد من الجراحة، في ظل انسداد الأفق الذي عاشته اليمن قبلها، ولعلنا أيضا أن ندرك بتعاقب الأحداث أن فبراير هي معركة مؤجلة، منذ سبتمبر الأم، ومهما كانت فداحة نتائج قيامها، فهي أقل فداحة من نتائج وأدها الذي حول اللعبة إلى لعبة أممية ليس لنا فيها إلا الأرض والاسم، وتداعت علينا الأمم كتداعي الأكلة على قصعتها، ولكل نبأ مستقر، وسوف تعلمون .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.