شعار قسم مدونات

مصر والسودان.. ما بين الاستغلال وأخوة الجوار

BLOGS السودان و مصر
في هذا المقال لن أتحدث عن العلاقات بين الشعبين السوداني والمصري، ولكن موضوعنا هو العلاقات على مستوي الحكومات والنخب الحاكمة في كلا البلدين والسياسات المتبعة وتأثيرها على مسار العلاقات. أحاول في هذا المقال أن ألقي الضوء على أهم القضايا والملفات المهمة والحساسة في العلاقات السودانية المصرية والسياسات المتبعة.

مياه النيل

يعتمد السودان على مصادر عدة للمياه مثل المياه الجوفية ومياه الأمطار وروافد الانهار، وأهم المصادر المائية أيضا نهر النيل الذي يعبر الأراضي السودانية من المنبع إلى دول المصب السودان ومصر. النيل هو شريان الحياة في مصر وتعتمد عليه اعتمادا تماما في كل مياهها، لذلك يشكل النيل أهم دعائم الأمن القومي المصري وأهم المصالح المشتركة مع السودان، عليه تبنى العلاقات وعليه تتأزم. 

الحكومات والنخب المصرية التي تعاقبت على حكم مصر منذ العهد الخديوي (الملكي) إلى عهد الجمهورية كانت تعتبر السودان مصدر مياهها وتبني علاقاتها ومصالحها على مقياس مدى استجابة الحكومات والنخب السودانية لسياسات مصر المائية ومدى الالتزام بها. حاولت الحكومات المصرية المتعاقبة محاربة المشاريع والطموحات السودانية الساعية إلى زيادة إنتاجها الزراعي واعتمادها على مياه النيل. البداية كانت مع مشروع الجزيرة، حيث وقفت مصر بشدة ضد هذا المشروع واعتبرته تهديدا لأمنها المائي، لكن الإصرار البريطاني حال دون ذلك، بسبب احتياج بريطانيا لمنتوج القطن لتشغل مصانعها في لنكشير.

 

توحش الحكومة المصري والأنانية في سياستها تجاه السودان إنما كان ينم عن ضعف القوى السياسية وما يسمي بالأحزاب الوطنية السودانية في خُضوعها شبه التام للسياسة المصرية وغياب الوعي

كانت الإدارات المصرية المتواجدة في السودان تحث السودانيين للاعتماد على الأمطار والمياه الجوفية لري الأراضي الزراعية وتنشئ الآبار حتى تحول دون استخدامهم لمياه النيل، كما عارضت بشدة زراعة القطن طويل التيلة في الأراضي السودانية حتى لا ينافسها في الأسواق العالمية. مصر سعت لإبرام العديد من الاتفاقيات التي تضمن لها أمنها المائي وتلبي رغبتها في السيطرة على النهر ومن أبرز هذه الاتفاقيات:

اتفاقية سنة 1929، تعتبر من أهم الاتفاقيات التي أبرمت بين مصر ودولة الاستعمار إنجلترا التي كانت تنوب عن كل من أوغندا وتنزانيا وكينيا، ولم يكن السودان طرفا فيها بحكم الاستعمار. ونصت الاتفاقية على أن لمصر حق الفيتو في حال تم إنشاء أي مشاريع على مجرى النهر والروافد. في اتفاقية 1959، التي أبرمت بين السودان ومصر اتفق الطرفان فيها على الآتي: اقتسام مياه النيل الواصلة إلى أسوان (84 مليار متر مكعب)، بعد خصم فاقد التبخر في السد العالي (10 مليار) والحقوق المكتسبة للبلدين (52 مليار – 48 لمصر و 4 للسودان)، بنسبة 7.5 لمصر و14.5 للسودان ليصبح نصيب مصر 55.5 مليار متر مكعب والسودان 18.5 مليار متر مكعب، كما اتفقا أيضا على سلفة مائية لمصر من السودان.

توحش الحكومة المصري والأنانية في سياستها تجاه السودان إنما كان ينم عن ضعف القوى السياسية وما يسمى بالأحزاب الوطنية السودانية في خُضوعها شبه التام للسياسة المصرية وغياب الوعي اللازم عند عامة الشعب بسبب الجهل وتفشي الأمية والانتماء الطائفي (الأنصار والمرغنية) هذه العناصر مجتمعة سهلت للحكومات المصرية استغلال السودان وموارده المائية. ونجد في الوقت نفسه وقوف السودان بجانب مصر في مشاريعها المائية وأبرزها على الإطلاق مشروع السد العالي الذي قدم السودان وأهله أرض حلفا (شمال السودان)، أرض الحضارة والآثار النوبية هدية أو قربانا لهذا المشروع الضخم الذي أغرق منطقة حلفا مع حضارتها الضاربة في القدم، ورحلت (شتتى) أهلها إلى الداخل السوداني. وهنا أعترف أنه ما كان ليتم مثل هذا المشروع لولا سذاجة الساسة السودانيين وعدم وضعهم لمصالح السودان أولا قبل الركض خلف أكاذيب الحكومة المصرية، وشعارات الأخوة الفارغة إنما هي شعارات للاستغلال، وفعلا استغل الساسة السودانيون، ولكن حان الوقت لكي نقول كفى استغلالا وأن نلتفت إلى مصالحنا الوطنية إن كان في قضية سد النهضة أو تحالفاتنا المستقبلية.

 

مشكلة حلايب وشلاتين بدأت تطفو إلى السطح في عام 1992 حينما أراد السودان منح إحدى الشركات الكندية التنقيب عن النفط في المياه المقابلة لمثلث حلايب عندها اعترضت الحكومة المصرية
مشكلة حلايب وشلاتين بدأت تطفو إلى السطح في عام 1992 حينما أراد السودان منح إحدى الشركات الكندية التنقيب عن النفط في المياه المقابلة لمثلث حلايب عندها اعترضت الحكومة المصرية
 

النزاعات الحدودية والتدخل في الشأن الداخلي

العلاقات السودانية المصرية الحالية هي عبارة عن تراكمات نتجت عن سياسات الوصاية والتعالي الذي انتهجته القاهرة منذ استقلال السودان، القاهرة تتعامل مع السودان كأن الأخير تحت الوصاية المصرية ولها حق تمرير سياستها عليه.

الحكومات المصرية كانت ومازالت تسعى إلى خلق أزمات داخل السودان حتى يسهل عليها التحكم في الإرادة السياسة ولتمرير أجنداتها ومصالحها، ويمكن أن نرى ذلك واضحا في أزمات؛ مثل جنوب السودان، دارفور، وشرق السودان بالإضافة إلى احتواء واحتضان المعارضة والمتمردين السودانيين في القاهرة. علاوة على ذلك الوقوف ضد السودان في المحافل الدولية وخاصة مجلس الأمن الدولي والتصويت ضد مصالح السودان الخارجية والعمل على تشويه اسمه وربطه بالإرهاب.

مشكلة حلايب وشلاتين بدأت تطفو إلى السطح في عام 1992 حينما أراد السودان منح إحدى الشركات الكندية التنقيب عن النفط في المياه المقابلة لمثلث حلايب، عندها اعترضت الحكومة المصرية وبذلك  انسحبت الشركة الكندية حتى يتم الفصل في المسألة. في عام 2000 انسحب الجيش السوداني من المثلث وقامت القوات المصرية بفرض سيطرتها، وباشرت بشراء ولاءات زعماء القبائل وبدأت بتشريد الأهالي وفرض قيود على قاطني المثلث. وفي عام 2004 أعلن السودان عدم تخليه عن المثلث، وأنه سيحيل مسألة المثلث إلى مجلس الأمن الدولي للبت فيها. مازال السودان سنويا يجدد الدعوة في مجلس الأمن ويثبت أحقيته الكاملة على المثلث، وحتى الآن مصر ترفض التفاوض في القضية.

العلاقات بين الدول تقوم على مبدأ الندية واحترام السيادة والمصالح المشتركة، ولن تقوم علاقات سوية بين السودان ومصر في ظل اعتبار مصر  للسودان أنها دولة تابعة لها
العلاقات بين الدول تقوم على مبدأ الندية واحترام السيادة والمصالح المشتركة، ولن تقوم علاقات سوية بين السودان ومصر في ظل اعتبار مصر  للسودان أنها دولة تابعة لها
 

سفراء مصر المعينون من قبل الخارجية المصرية كانوا من خلفيات أمنية أو ضباطا في جهاز المخابرات المصرية، ولم يُعين سفراء من السلك الدبلوماسي، لكي تخرج العلاقات من علاقات أمنية في الدرجة الأولى إلى علاقات دبلوماسية طبيعية تُعين على تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية. قام السودان بتطبيق بنود اتفاقية الحريات الأربع التي وقعت مع مصر في 2004 من أجل التكامل الاقتصادي، لكن الطرف المصري كان دائما يخل ببنود الاتفاقية ويفرض تأشيرات على السودانيين القادمين إلى مصر. جمع غفير من السودانيين أيد بشدة خطوة الحكومة السودانية في اتخاذها إجراءات مماثلة وفرض تأشيرات على المصريين القادمين للسودان من باب المعاملة بالمثل والبادئ أظلم.

العلاقات بين الدول تقوم على مبدأ الندية واحترام السيادة والمصالح المشتركة، لن تقوم علاقات سوية ما بين السودان ومصر في ظل رؤية مصر للسودان على أنها دولة تابعة لها أو محاولة إخضاع السودان لسياساتها. السودان دولة مستقلة في قرارها السياسي وتقرر مع من تتحالف ومع من تعادى وفق ما تملي عليها مصالحها الوطنية. السودان يضع كرامته وسيادته في المقام الأول وينطلق في علاقاته الدولية وفق هذا المبدأ. 

مصر دولة جارة وشقيقة ويجمعها مع السودان تاريخ طويل من العلاقات والمصاهرات التي يمكن أن تجعل البلدين يصلا إلى حد التكامل في كل الجوانب الاقتصادية والأمنية والسياسية والثقافية، وهذا لن يتم إلا في حال أدرك الساسة المصريون أن السودان دولة ند لهم وليست تابعة لهم. وأختم هذا المقال بالقول إن السودان دائما مستعد للتكامل مع مصر في حال قررت القاهرة تغيير سياساتها العدائية ضده، وأن تنتهج نهج المصالح المشتركة وما فيه مصلحة البلدين اقتصاديا وأمنيا وسياسيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.