شعار قسم مدونات

ما مدى شرعية تمثيل المثقف لمجتمعه؟

blogs - reading

"بدأت نضالا لفضح الانحياز والخبث الكامنين في السلطة التي تعتمد في مصادر قوتها اعتمادا مطلقا على صورتها الإيديلوجية عن ذاتها بوصفها فاعلا أخلاقيا يتصرف بقصد شريف وبنوايا لا يرقى إليها الشك"

(إدوارد سعيد)

     

"في ذلك الوقت كان المستقبل هو المهيمن على حياتنا. كنا نعيش الحاضر، أو أكثره، بانتظار المستقبل الذي ستتحقّق فيه أحلامنا. كان الحاضر فترة استراحة بين المراهقة التي نسعى إلى تجاوزها بأسرع ما يمكن، و"الرجولة" التي مثّلت لنا بداية الحقيقة. هكذا هدرنا تلك المرحلة من حياتنا دون أن نعيشها حقا. إننا لا ندرك ذلك إلا بعد أن يمضي الزمن ويغيب الحاضر. وهكذا في المرحلة الأخيرة من العمر لا يبقى من الحاضر إلا هذا الماضي الذي نحنّ إليه. النهاية، عندما نصلها، دائما نسترجع البداية. عند ذلك ندرك أنّ المستقبل الذي انتظرناه يوما بعد يوم، طيلة الحياة، ليس إلا هذا الماضي الذي استهلكناه بانتظار المستقبل."

(هشام شرابي)

       

لستُ هنا لأقدم جوابا على سؤال واحد أو حتى لأقدم حقيقة  ناجزة، بل أتيتُ لأثير تساؤلات أعتبرها كالأدوات المفاهيمية لإعادة التفكير في هذه المسألة بشكل أفضل، والسؤالُ الذي أحاول إثارته هو: ما مدى شرعية تمثيل المثقف لمجتمعه؟

    

دور المثقف هو النطق بما يراه هو بأنه الحق.. إنه يقول ما هداه إليه عقله وقرَّ في قناعته، أي أنه ينتج فكرة، ثم يسوّقها على مجتمعه، وللمخاطبين بعد ذلك حق القبول أو الرفض

قد يُستضاء بتوصيف المفكر الفرنسي ليكلرك لوظيفة المثقفين التي التزموا بها -أو هكذا يُفترض- بشكل فردي أو جماعي، بأنها "تتمثّلُ في الانحياز إلى الشأن العام والتشكيك في (الحقيقة الرسمية) المتمثّلة في السلطات أو المؤسسات، وفي الحالتين تضع الطبقة الفكرية نفسَها بتماس مباشر وصميم، وصراعي إلى حد ما، مع الدولة أو الطبقة السياسية والطبقة المسيطرة اقتصاديا". إذن فربما كانت المشروعيةُ نابعة من صدق الانحياز إلى الشأن العام، أي هموم المجتمع، في مقابل الدولة، وهذه الهموم والاحتياجات حاضرة وموجودة ربما قبل المثقف، فهو لا يخترعها، بل فقط يكتشفها، ويبرزها، ويتجاوزُ تسويغها إلى الاحتجاج لها. إن المثقف لا يقنعنا بأننا بحاجة ماسّة -مثلا- إلى سينما، إنه إن قام بذلك فإنما يزرعُ فينا حاجات جديدة، أي يختلقُها. لكن ستغدو همومُ المثقف -والحالُ هذه- منفصلة عن هموم المجتمع، وبذلك فسيبدو كمن يحاولُ استنطاقَ المجتمع بحاجاته هو، ومن ثمّةَ فالاعترافُ بـ"الآخرين" أو "الجمهور" أو "المجتمع" الذين يدّعي المثقف أنه يتكلم عنهم، الذين ربما وسمهم بـ"الأغلبية الصامتة"؛ إنما كي يخرسهم عمدا، لئلا ينطقوا بنبذه، وحتى لا يخلعوه عن منصب "النيابة" الذي تقلّدَهُ من غير مشورة منهم، إذ هي من ضمن المناصب القيادية المغتصبة..!
     
إنني لا أزال أظنه استشكالا مقلقا وموقِظا أيضا، وهو ربما سيجرّنا إلى طرح سؤال آخر أكثر وضوحا وتحديدا، هو: هل المثقف أصلا يقوم بدور "الناطق" باسم المجتمع، أم أنه -فقط- ينافح عن فكرته التي يرى أنها أجدى على المجتمع وأعود عليه بالخير؟..وبهذا فالمثقف إنسان باحث -بالأساس- عما هو حق وجميل، لمجرد أنه يرغبُ بذلك، وجهدُهُ الذهني مستغرق في التفكر في ذلك، أو كما يقول عبدالإله بلقزيز: "إن وظيفة المثقف ليست في ترداد ما يعتقد الجمهور، بل في إنتاج معرفة نظرية لا يستطيعها غيره"، إذن فما يردده المثقف ليس هو ما يردده المجتمع، ثم بعد الامتلاء بتلك الأفكار يتوجّه إلى الآخرين داعيا لهم.
     
طبعا على الاحتمال الأول، فإن المثقف يعدُّ نفسَهُ مخولا أخلاقيا -وأحيانا دينيا- لأن يلفظ بما أضمره الناس، وينطق بما سكتوا عنه، وأن يحتجَّ أو يفنّد ما لا يقدر الناس على الاحتجاج له أو تفنيده، لأن إمكانياتهم المعرفية والفكرية تحول دون ذلك، ولأن المثقف -بهذا التصور- جزء من مجتمعه، ملتحمٌ بقضاياه، فالقضايا هي القضايا، والهمومُ هي الهموم، إذ كل -المجتمع ومثقفوه- في الهمِّ سواءُ. إنه -باختصار- نصير فذ لمجتمعه.
     
أما الاحتمال الثاني، فإن المثقف يقومُ فيه بتنصيبِ نفسِهِ داعية ومبشّرا، وفحوى خطابه ستكون بالنهاية هي "أنتم ضالون أو مخطئون فالطريقُ من هنا..!"، وبناء عليه فإن دورَ المثقف هو النطق بما يراه هو -وليس بالضرورة أحد غيره- بأنه "الحق". إنه يقول ما هداه إليه عقله وقرَّ في قناعته، أي أنه ينتج فكرة، ثم يسوّقُها على مجتمعه، وللمخاطبين بعد ذلك حقُ القبول أو الرفض.
     
وعلى هذا ؛ فلابد أن نفرق بين الصورتين، فهو إما: معبّر عن الناس أو ناصح لهم. والأول متماه مع مجتمعه، ومتفق -في الجملة- معه، والثاني مخالف لمجتمعه ناقد له، ثم لا شيءَ يمنع أن يجمع المثقف بين الدورين، بحسب الحيثيات الموضوعية، فهو تارة معبّر وناطق باسم المجتمع، وتارة أخرى ناقد مقوّم له، لكنه -كصادق وأمين- يفصل بين الدورين بوضوح. أما أن يوهم الجميع بأنه موكّل -دائما- عن الجميع؛ فهذا خداع وتضليل وخيانة، تماما كالحكومات التي تزوّرُ الانتخابات، ثم تزعم أمام الشعب أنها الممثّل الشرعي له، والحقيقةُ أنها سرقت الشعبَ من الشعب، وصادرته، وحلّت مكانه بعدَ أن نفتهُ. من الضروري إذن أن يُنظرَ إلى ذلك بوصفِهِ مروقا سافرا عن مقتضى الأخلاق والدين والأمانة والشرف..وليت شعري ماذا بقي له من "حقٍ" لينطقَ به، فالحقُ "الحقيقي" لا يسوّغ الخيانة، وعندما تقول للآخرين إنك دائما "أنتَ هم"، أي أنك تعبّر عنهم كاللسان الذي يبينُ عمّا في الجنان، ثم يتضح أن هذا اللسان "المختلَق" يتحدثُ بأشياء ليست هي مما في الجنان، فليس هذا سوى الكذب، والكذب فقط..!

  
يقول المهدي المنجرة: "فإذا كانت الوظيفة الأساسية لأي مثقفٍ هي التبليغ، فإنه لن تكون ثمّةَ مصداقية لهذا التبليغ إذا لم تتوفر فيه شروط المثال واحترام الآخرين له، لأن الناس قد يقبلون الغشَّ والتدليس في كل شيء إلا في الفكر".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.